يرجع من العام المقبل في ذلك الشهر ، فيدخل مكّة ، فيقيم فيها ثلاثة أيّام. وكان ذلك في ذي القعدة. فأدخله الله من العام المقبل مكّة واقتصّ له منهم. وهو قوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ).
وقال الحسن : إن استحللتم منّا القتال في الشهر الحرام استحللناه منكم ، فإنّ الحرمات قصاص. وكان ذلك قبل أن يؤمر بقتالهم كافّة.
قال : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) : فاستحلّ منكم القتال (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) : أى : فاستحلّوا منه. وتأويل الاعتداء هنا هو المجاوزة. يقول : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) : أى : جاوز إليكم ما كان يحرّمه منكم (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) : أى : فجاوزوا ما كنتم تحرّمون منه.
وقال الكلبيّ : قوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) قال : لّما قدم النبيّ صلىاللهعليهوسلم مكّة من العام المقبل لما كان صالحهم عليه من دخولها ويقيم فيها ثلاثة أيّام ، فقدم مكّة وخرجت قريش كهيئة البزاء (١) ، فخاف أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن لا يفي لهم المشركون ، فقال الله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) يقول : إن قاتلوكم دون البيت فقاتلوهم. وقال السّدّيّ : إن اعتدوا عليكم فقاتلوكم في ذلك العهد فقاتلوهم.
وقال بعضهم : أقبل نبيّ الله وأصحابه فاعتمروا في ذي القعدة ومعهم الهدي ، حتّى إذا كانوا بالحديبيّة صدّهم المشركون. فصالحهم نبيّ الله أن يرجع عامه ذلك حتّى يرجع من العام المقبل ، فيكون بمكّة ثلاثة أيّام وثلاث ليال ، ولا يدخلها إلّا بسلاح الراكب ، ولا يخرج بأحد من مكّة. فنحروا الهدي بالحديبيّة ، وحلقوا وقصّروا. فأقصّه الله منهم ، فأدخله مكّة في ذلك الشهر الذي كان ردّوه فيه في ذي القعدة ، فقال : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ...) إلى آخر الآية. قال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤).
قوله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) : ذكر البراء بن عازب
__________________
(١) في ق وع : «البدا» ، وفي د : «الندا» ، وصوابه ما أثبتّه إن شاء الله «البزاء» ، وهو انحناء الظهر. ولم أجد لكلمة أخرى تشبهها في الرسم وجها تطمئنّ إليه النفس ، ولم أجد العبارة في كتب التفسير والتاريخ. والبزاء انحناء الظهر عند العجز ، وقيل : هو أن يتأخّر العجز ويظهر. وانظر اللسان (بزا).