نزلت هذه الآية بعد ما صرف النبيّ عليهالسلام إلى الكعبة. وهي قبلها في التأليف ، وهي بعدها في التنزيل. وذلك أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لّما حوّله الله إلى الكعبة من بيت المقدس ، قال المشركون : يا محمّد ، أرغبت عن قبلة آبائك ثمّ رجعت إليها؟ وأيضا والله لترجعنّ إلى دينهم ؛ فأنزل الله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) يعني بيت المقدس.
قال : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢) : أى : مستقيم إلى الجنّة ، وهو الإسلام.
قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) : أى : عدلا [يعني أمّة محمّد] (١) (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) : أى يوم القيامة بأنّ الرسل قد بلّغت قومها عن ربّها (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) : على أنّه قد بلّغ رسالة ربّه إلى أمّته. قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) : يعني بيت المقدس (إِلَّا لِنَعْلَمَ) : أى : إلّا ليكون ما علمنا كما علمنا (٢). وهو علم الفعال. (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) : يعني صرف القبلة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) : يعني تحوّلهم عن بيت المقدس ؛ لأنّ العرب لم تكن قبلة أحبّ إليها من الكعبة. فقال : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) ، أى : لعظيمة ، (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ).
قال بعض المفسّرين : كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص ؛ صلّى رسول الله صلىاللهعليهوسلم إقامته بمكّة إلى بيت المقدس ، وصلّت الأنصار إلى بيت المقدس حولين قبل قدوم النبيّ عليهالسلام المدينة ، وصلّى النبيّ بعد قدومه المدينة نحو بيت المقدس ستّة عشر شهرا ، ثم وجّهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام ، فقال قائلون : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)؟ لقد اشتاق الرجل إلى مولده.
وقال أناس لّما صرفت القبلة : كيف بأعمالنا التي كنّا نعمل من قبل في قبلتنا الأولى ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، وقد يبتلي الله العباد بما يشاء من أمره ، الأمر بعد الأمر ، ليعلم من يطيعه ممّن يعصيه. وكلّ ذلك مقبول إذا كان في إيمان بالله وإخلاص له وتسليم لقضائه (٣).
__________________
(١) زيادة من ز.
(٢) كذا في ق وع : «ليكون ما علمنا كما علمنا». وفي د : «ليكون ما علمنا» فقط.
(٣) هذا قول قتادة كما في مخطوطة ز ، ورقة ٢٠ فتأمّله فإنّه كلام نفيس. وانظر تفسير الطبري ج ٣ ص ١٥٧.