تقتضى التسليم ، والعزة تقتضى التعظيم ، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد ، ولا يغلبه غيره ، ولا يمتنع عليه شىء أراده ، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله فى المغفرة لهم أو عدمها ؛ لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته ، وأيهما فعل فهو جميل لحكمته. وقال أبو جعفر بن الزبير : إنما لم يقل الغفور الرحيم ؛ لئلا يكون شفيعا لهم بطلب المغفرة ، فاقتصر على التسليم والتفويض ، دون الطلب ، إذ لا نصيب فى المغفرة للكفار. أنظر بقية كلامه.
قال التفتازانيّ : ذكر المغفرة ، يوهم أن الفاصلة : (الغفور الرحيم) ، لكن يعرف بعد التأمل أن الواجب هو العزيز الحكيم ؛ لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه ، وهو العزيز ، أي : الغالب ، ثم وجب أن يوصف بالحكمة على سبيل الاحتراس ؛ لئلا يتوهم أنه خارج عن الحكمة. ه.
قال الله تعالى : (هذا) أي : يوم القيامة (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أي : هنا ينتفع الصادقون فى الدنيا بصدقهم ، ويفتضح الكاذبون على الله بكذبهم. والمراد بالصادقين ؛ أهل التوحيد ، الذين نزهوا الله تعالى عما لا يليق بجلاله وجماله ، فصدقوا فيما وصفوا به ربهم.
ثم ذكر ما وعدهم به ، فقال : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) حيث رضوا بأحكامه القهرية والتكليفية ، (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وهذا تنبيه على تكذيب النصارى ، وفساد دعواهم فى المسيح وأمه ، وإنما لم يقل : ومن فيهن ، تغليبا لغير العقلاء ، وإنما غلب غير أولى العقل للإعلام بأنهم فى غاية القصور عن معنى الربوبية ، وإهانة لهم وتنبيها على أنهم جنس واحد ، فمن يعقل منهم لقصور عقله ونظره كمن لا يعقل ، فيبعد استحقاقهم للألوهية التي تنبىء عن تمام الحكمة وإحاطة العلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من صدّر نفسه للشيخوخة من غير إذن ، وأشار إلى تعظيمه بلسان الحال أو المقال يلحقه العتاب يوم القيامة فيقال له : أأنت قلت للناس عظمونى من دون الله؟ فإن كان مقصوده بالأمر بالتعظيم الوصول إلى تعظيم الحق تعالى ، والأدب معه فى الحضرة دون الوقوف مع الواسطة ، وبذل جهده فى توصيل المريدين إلى هذا المقام ، يقول : سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق ، إلى تمام ما قال السيد عيسى عليهالسلام ، فيقال له : (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم). وإن كان مقصوده بالتصدر للتعظيم والأمر به ، حظ نفسه ، وفرح بتربية جاهه والإقبال عليه ، افتضح وأهين بما افتضح به الكاذبون المدعون. نسأل الله تعالى الحفظ والرعاية بمنّه وكرمه ، وسيدنا محمد رسوله ونبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ، وعلى آله وصحبه وسلم ـ.