(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا) : لا تزال (تَذْكُرُ يُوسُفَ) تفجعا عليه ، (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) : مشرفا على الهلاك ، (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) : من الميتين. (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) أي : شدة همى (وَحُزْنِي) الذي لاصبر عليه ، (إِلَى اللهِ) لا إلى أحد منكم ولا غيركم ؛ فخلّونى وشكايتى ، فلست ممن يجزع ويضجر ؛ فيستحق التعنيف ، وإنما أشكو إلى الله ، ولا تعنيف فيه ؛ لأن فيه إظهار الفقر ، والعجز بين يديه ، وهو محمود. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي : أعلم من لطف الله ورأفته ورحمته ، ما يوجب حسن ظنى وقوة رجائى ، وأنه لا يخيب دعائى ، ما لا تعلمون. أو : وأعلم من طريق الوحى من حياة يوسف ما لا تعلمون ؛ لأنه رأى ملك الموت فأخبره بحياته ، كما تقدم. وقيل : علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى تخر له إخوته سجّدا.
(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا) إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم ، (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي : تعرفوا من خبرهما ، وتفحّصوا عن حالهما. والتحسس : طلب الشيء بالحواس. وإنما لم يذكر الولد الثالث ؛ لأنه بقي هناك اختيارا ، وفى ذكر يوسف دليل على أنه كان عالما بحياته. (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) : لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه ، أو من رحمته ، وقرىء بضم الراء ، أي : من رحمته التي يحيى بها العباد ، أي : ولا تيأسوا من حى معه روح الله ؛ فكل من بقي روحه يرجى ، أي : ويوسف عندى ، فمن معه روح الله فلا تيأسوا من رجوعه. (إِنَّهُ) أي : الشأن (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بالله وصفاته ؛ لأن العارف لا يقنط من رحمته فى شىء من الأحوال. وإنما جعل اليأس من صفة الكافر ؛ لأن سببه تكذيب بالربوبية ، أو جهل بصفة الله وقدرته ، والجهل بالصفة جهل بالموصوف ، فالإياس من رحمة الله كفر.
وأما حديث الرجل الذي قال : (إذا متّ فاحرقونى ، ثم اذرونى فى البحر والبر فى يوم رائح ، فلئن قدر الله علىّ ليعذبنى عذابا ما عذبه أحد من الناس) ، حسبما فى الصحيح (١) ، فليس فيه اليأس ولا تعجيز القدرة ، لكن لما غلبه الخوف المفرط لم يتأمل ولم يضبط حاله ؛ إما لحقه من الخوف وغمره من الدهش والخشية ، دون عقد ولا إصرار على نفى الرحمة واليأس منها. ويدل على ذلك قوله : (لما قال له الرب ـ تعالى ـ : ما حملك على هذا؟ قال : مخافتك ، فغفر له). ولم يقل اليأس من رحمتك. انظر المحشى الفاسى.
الإشارة : لم يتأسف يعقوب عليهالسلام على فقد صورة يوسف الحسية ، إنما تأسف على فقد ما كان يشاهد فيه من جمال الحق وبهائه ، فى تجلى يوسف وحسن طلعته البهية ، وفى ذلك يقول ابن الفارض :
عينى لغير جمالكم لا تنظر |
|
وسواكم فى خاطرى لا يخطر |
__________________
(١) أخرج قصة هذا الرجل البخاري فى (الرقاق ، باب الخوف من الله) من حديث أبى سعيد الخدري رضى الله عنه.