الإشارة : ما قيل لأهل الكتاب يقال لهذه الأمة المحمدية على طريق الإشارة ، فيقال لهم : لستم على شىء ، يعبا به من أعمالكم وأحوالكم ، حتى تقيموا كتابكم القرآن ، فتحلوا حلاله ، وتحرموا حرامه ، وتقفوا عند حدوده ، وتمتثلوا أوامره ، وتجتنبوا نواهيه ، وتقيموا ـ أيضا ـ سنة نبيكم ؛ فتقتدوا بأفعاله ، وتتأدبوا بآدابه ، وتتخلقوا بأخلاقه ، على جهد الاستطاعة ، ولذلك قال بعض السلف : ليس علىّ فى القرآن أشد من هذه الآية : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) الآية. كما فى البخاري (١).
ثم ذكر عتو اليهود وطغيانهم ، فقال :
(... وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)
يقول الحق جل جلاله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً) من اليهود (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن والوحى (طُغْياناً وَكُفْراً) على ما عندهم ، فلا تحزن عليهم بزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه إليهم ، فإن ضرر ذلك لا حق بهم ، لا يتخطاهم ، قال ابن عباس : جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم وملك بن الصيف ورافع بن حريملة فى جماعة من اليهود ، فقالوا : يا محمد ، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ، وأنك مؤمن بالتوراة وبنبوة موسى ، وأن جميع ذلك حق؟ قال : بلى ، ولكنكم أحدثتم وكتمتم وغيرتم». فقالوا : إنا نأخذ بما فى أيدينا فإنه الحق ، ولا نصدقك ولا نتبعك ، فنزلت فيهم هذه الآية.
الإشارة : من شأن أهل المحبة والاعتقاد ، الذين سبقت لهم من الله العناية والوداد ، إذا ازداد على أشياخهم فيض علوم وأنوار وأسرار ؛ زادهم ذلك يقينا وإيمانا وعرفانا ، يجدون حلاوة ذلك فى قلوبهم وأسرارهم ؛ فيزدادون قربا وشهودا ، وأهل العناد الذين سبق لهم من الله الطرد والبعاد ؛ إذا سمعوا بزيادة علوم وأنوار على أولياء الله ، زادهم ذلك طغيانا وبعدا ، فلا ينبغى الالتفات إليهم ، ولا الاحتفال بشأنهم ، فإن الله كاف شرهم ، وبالله التوفيق.
ثم رغب أهل الملل فى الإسلام ، فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩))
قلت : (والصابئون) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون كذلك. انظر البيضاوي وابن هشام.
__________________
(١) القائل هو سيدنا سفيان بن عيينة ، وذكره البخاري فى (الرقاق ـ باب الرجاء والخوف).