(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً) آخر النهار ، وقرىء عشى بضم العين والقصر ، جمع أعشى ، أي : عشى من البكاء. فجاءوا إليه (يَبْكُونَ) أي : متباكين. روى أنه لما سمع بكاءهم فزع وقال : يا بنى ، أين يوسف؟ فقالوا : (يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) ؛ أي : نتسابق بأقدامنا فى العدو ، أو الرمي (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) : بمصدق لنا ، (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) ؛ لسوء ظنك ، وفرط محبتك ليوسف.
(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ) : فوق قميصه (بِدَمٍ كَذِبٍ) ، أي : ذى كذب بمعنى مكذوب فيه ؛ لأنهم ذبحوا جديا ، ولطخوا قميصه بدمه. روى أنه لما سمع بخبر يوسف صاح ودعا بقميصه فأخذه ، وألقاه على وجهه ، وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص ، وقال : ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا! أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه.
وفى رواية أخرى : أنه لما رأى صحة القميص ضحك ، فقالوا له : الضحك والبكاء من فعل المجانين! فقال : أما بكائي فعلى يوسف لما رأيت الدم ، وأما ضحكى ، فإنى لما رأيت صحة القميص رجوت أن الحديث غير صحيح ، ولذلك (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي : سهلت لكم ، وهونت فى أعينكم أمرا عظيما حتى أقدمتم عليه. وقيل : لما سمع مقالهم غشى عليه إلى الصباح ، وهم يبكون بأجمعهم ، ويقولون بينهم : بئس ما فعلناه بيوسف ووالده ، وأي عذر لنا عند الله. فلما أفاق نظر إلى أولاده وقال : هكذا يا أولادى كان ظنى فيكم ، بئس ما فعلتم ، وبئس ما سولت لكم أنفسكم (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي : فأمرى صبرى جميل. وفى الحديث : «الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» (١). (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي : على احتمال ما تصفونه من هلاك ابني يوسف. وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم ، إن صح أنهم تنبأوا. وقد تقدم فى سورة البقرة الخلاف فى نبوة الأسباط فراجعه (٢).
الإشارة : فى هذه الآية رجاء كبير لأهل العصيان ، وبشارة وتأنيس لمن أراد مقام الإحسان ، بعد الإساءة والغفلة والنسيان ، وذلك أن هؤلاء السادات فعلوا بيوسف عليهالسلام ما فعلوا ، فلما تابوا بعد هذا الفعل العظيم اجتباهم الحق تعالى ، وتاب عليهم ، وقربهم حتى صاروا أنبياء ، على حد قول بعض العلماء. ولذلك قيل : [كم من خصوص خرجوا من اللصوص ، وكم من عابد ناسك خرج من ظالم فاتك]. وفى الحكم : «من استغرب أن ينقذه الله من
__________________
(١) أخرجه ابن جرير فى التفسير (١٢ / ١٦٦) عن حبان بن أبى جبلة ، مرسلا.
(٢) راجع تفسير الآية ١٣٦ من سورة البقرة.