ومن سبق له فى العلم القديم الخذلان لا يخرج عن دائرة الأكوان ، فلا يؤمن بوجود أهل الشهود والعيان ، فما ينتظر مثل هذا إلا ما نزل بأمثاله ، من هجوم الحمام قبل خروجه من سجن الأجرام ، فإنه لا ينجو من سجن الأكوان إلا من صحب أهل العرفان ، الذين أفضوا إلى فضاء الشهود والعيان ، وقليل ما هم.
ثم أمر نبيه بالتبرء من الشرك وأهله ، فقال :
(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧))
قلت : (وأن أقم) : عطف على (أن أكون) وإن كان بصيغة الأمر ؛ لأنّ الغرض وصل «أن» بما يتضمن معنى المصدر ليدل معه عليه ، وصيغ الأفعال كلها كذلك ، سواء الخبر منها والطلب ، والمعنى : وأمرت بالإيمان والاستقامة.
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) يا محمد لأهل مكة أو لجميع الناس : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) ؛ بأن شككتم فى صحته حتى عبدتم غير الله ، (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) فهذا خلاصة دينى اعتقادا وعملا ، فاعرضوها على العقل السليم ، وانظروا فيها بعين الإنصاف ، لتعلموا صحتها ، وهو أنى لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه ، ولكن أعبد خالقكم ، الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفى بالذكر لأنه أليق بالتهديد ، انظر البيضاوي. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالله وحده ، الذي دل عليه العقل ونطق به الوحى.
(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) ؛ مائلا عن الأديان الفاسدة ، أي : أمرت بالاستقامة بذاتى كلها فى الدين والتوغل فيه ، بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح ، أو : أن أقيم وجهى فى الصلاة باستقبال القبلة. وقيل لى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله فى شىء ، (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) بنفسه ولا بدعوته ، (فَإِنْ فَعَلْتَ) ودعوته (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) ، وهو تنفير وتحذير للغير من الميل اليه.
ثم بيّن من يستحق العبادة والدعاء ، وهو الله تعالى فقال : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ) أي : يصيبك (بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ) : لا رافع له (إِلَّا هُوَ) أي : الله ، (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ) : لا دافع (لِفَضْلِهِ) الذي أرادك به.