قيل : كانوا يقولون : العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب. وهذا من فرط حماقتهم ، وقصور نظرهم على الأمور العاجلة ، وجهلهم بحقيقة الوحى والنبوة.
هذا .. وأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه ، إلا فى المال ، وخفة الحال أعون شىء فى هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك ـ أي : خفافا من المال ـ وقيل : تعجبوا من أنه بعث بشرا رسولا ، كما سبق فى سورة الأنعام. قاله البيضاوي.
ثم فسّر الوحى المذكور فقال : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي : أوحينا إليه بأن أنذر الناس أي : خوفهم من غضب ربهم ، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، عمم الإنذار ، إذ ليس من أحد إلا وفيه ما ينبغى أن ينذر منه ، وخصص البشارة إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به ، قاله البيضاوي.
أي : بشر المؤمنين بأنّ (لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : سابقة ومنزلة رفيعة ، سميت قدما لأن السبق يكون بها ، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وأضيفت إلى الصدق لتحققها وللتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية. قال ابن جزي : أي : عمل صالح قدموه ، وقال ابن عباس : السعادة السابقة لهم فى اللوح المحفوظ. ه وقال ابن عطية : والصدق فى هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول : رجل صدق ورجل سوء. ه.
(قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا) الكتاب ، أو ما جاء به الرسول ، (لَسِحْرٌ) (١) (مُبِينٌ) أي : بيّن ظاهر ، وقرأ ابن كثير والكوفيون : (لَساحِرٌ) ، على أن الإشارة إلى الرسول ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول أمورا خارقة للعادة ، معجزة لهم عن المعارضة ، وكلامهم هذا يحتمل أن يكون تفسيرا لما ذكره قبل من تعجبهم ، أو يكون مستأنفا.
الإشارة : تعجب الناس من أهل الخصوصية سنة ماضية ، فكما خفى عن أعين الكفار سر النبوة ، خفى عن أعين الخفافيش سر الخصوصية ، فلا يطلع عليها إلا من سبق له قدم صدق عند ربه ، فسبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ؛ فلم يدل عليها إلا من أراد أن يوصله إلى مشاهدة عظمة الربوبية.
قال فى لطائف المنن : فأولياء الله أهل كهف الإيواء ، فقليل من يعرفهم ، وسمعت الشيخ أبا العباس رضى الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله ، فإنّ الله تعالى معروف بكماله وجماله ، ومتى تعرف مخلوقا مثلك يأكل كما تأكل ، ويشرب كما تشرب؟ ، وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته ، وأشهدك وجود خصوصيته. ه.
__________________
(١) قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي «لساحر» بالألف وكسر الحاء. وقرأ الباقون «لسحر» بغير ألف ، إشارة إلى الوحى ـ انظر الإتحاف (٢ / ١٠٤).