فأشار تعالى إلى مقالتهم معاتبا لهم عليها بقوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) أي : فلم تغن تلك الكثرة عنكم شيئا من الإغناء ، أو من أمر العدو. وهذه المقالة صدرت من غير النبي صلىاللهعليهوسلم كما تقدم ؛ لأنه معصوم من الإعجاب ، وإن ثبت أنه قال ذلك فليس على وجه الإعجاب ، بل على وجه الإخبار ، وعلى ذلك جرى الحكم فى المذهب : من حرمة الفرار عند بلوغ اثنى عشر ألفا ، وكان المسلمون يومئذ اثنى عشر ألفا بالطلقاء ؛ وهم مسلمة الفتح : وكانوا الفين ، وسموا بالطلقاء ؛ لمنّ النبي صلىاللهعليهوسلم عليهم ، يقال لمن أطلق من أسر : طليق ، وجمعه على طلقاء نادر ؛ لأنه يشترط فى فعيل ، الذي يجمع على فعلاء ، أن يكون بمعنى فاعل ، كظريف وشريف ، لا بمعنى مفعول ، كدفين ودفنى ، وسخين وسخنى ، ومنه. طليق.
ثم قال تعالى : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) ؛ برحبها ، أي : ضاقت على كثرة اتساعها ، فلم تجدوا فيها مكانا تطمئن إليه نفوسكم من الدهش ، (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) ؛ هاربين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي : طمأنينته (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) بعد انهزامهم ، فرجعوا وقاتلوا ، أو على من بقي مع الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ولم يفروا. وإعادة الجار ؛ للتنبيه على اختلاف حالهما.
(وَأَنْزَلَ جُنُوداً) من الملائكة (لَمْ تَرَوْها) بأعينكم ، وكانوا خمسة آلاف ، أو ثمانية ، أو ستة عشر ، على اختلاف الأقوال. (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر والسبي ، (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي : ما فعل بهم هو جزاء كفرهم فى الدنيا ، (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) منهم ، بالتوفيق للإسلام ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم بالتوفيق والهداية.
روى أن أناسا منهم جاؤوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأسلموا ، وقالوا : يا رسول الله ، أنت خير الناس وأبرهم ، وقد سبى أهلونا وأولادنا ، وأخذت أموالنا ـ وقد سبى يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى ، فقال :
«اختاروا ، إما سبيكم ، وإما أموالكم». فقالوا : ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ هؤلاء جاءونا تائبين ، وأنا خيّرتهم بين الذّرارى والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده سبى فطابت نفسه أن يرده فشأنه ، ومن لا ، فليعطنا ، وليكن قرضا علينا حتّى نصيب شيئا فنعطيه مثله» ، فقالوا : رضينا وسلّمنا ، فقال : «إنّى لا أدرى ، لعلّ فيكم من لا يرضى ، فارجعوا حتى يرفع إلىّ عرفاؤكم أمركم» فرفعوا إليه أمرهم ، وقالوا : قد رضوا ، فردّ السبي إليهم ، وقسم الأموال فى المؤلفة قلوبهم (١) ، ترغيبا فى تسكين قلوبهم للإسلام. والغزوة مطولة فى كتب السيرة ، والله تعالى أعلم.
__________________
(١) القصة أخرجها البخاري فى (المغازي باب قول الله تعالى : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) عن عروة عن المسور ومروان.