يقول الحق جل جلاله : هذه (بَراءَةٌ) أي : تبرئة (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) واصلة (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، فقد تبرأ الله ورسوله من كل عهد كان بين المشركين والمسلمين ، لأنهم نكثوا أولا ، إلا أناسا منهم لم ينكثوا ، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، وسيأتى استثناؤهم. قال البيضاوي : وإنما علقت البراءة بالله وبرسوله ، والمعاهدة بالمسلمين ؛ للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم ، وإن كانت صادرة بإذن الله واتفاق الرسول ؛ فإنهما برئا منها. ه.
وقال ابن جزى : وإنما أسند العهد إلى المسلمين ؛ لأن فعل الرسول صلىاللهعليهوسلم لازم للمسلمين ، وكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم قد عقد العهد مع المشركين إلى آجال محدودة ، فمنهم من وفّى ، فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته ، ومنهم من نقض أو قارب النقض ، فجعل له أجل أربعة أشهر ، وبعدها لا يكون له عهد. ه. وإلى ذلك أشار بقوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) آمنين لا يتعرض لكم أحد ، وبعدها لا عهد بينى وبينكم. وذكر الطبري : أنهم أسلموا كلهم فى هذه المدة ولم يسح أحد. ه.
وهذه الأربعة الأشهر : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، لأنها نزلت فى شوال ، وقيل : هى عشرون من ذى الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع الأول ، وعشر من الآخر ، لأن التبليغ كان يوم النحر ؛ لما روى (أنها لمّا نزلت أرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا رضى الله عنه راكبا العضباء ليقرأها على أهل الموسم ، وكان قد بعث أبا بكر رضى الله عنه أميرا على الموسم ، فقيل : لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال : «لا يؤدّى عنّى إلا رجل منّى» فلمّا دنا علىّ رضى الله عنه سمع أبو بكر الرّغاء ، فوقف ، وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فوقف ، فلمّا لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور ، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضى الله عنه ، وحدّثهم عن مناسكهم ، وقام علىّ ـ كرم الله وجهه ـ يوم النّحر ، عند جمرة العقبة ، فقال : يا أيها النّاس ، إنى رسول رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليكم ، فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من أول السورة ، ثم قال : أمرت بأربع : ألا يقرب البيت بعد هذا مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنّة إلا نفس مؤمنة ، وأن يتمّ إلى كلّ ذى عهد عهده.) (١).
ولعل قوله صلىاللهعليهوسلم : «ولا يؤدى عنى إلا رجل منى» خاص بنقض العهود ؛ لأنه قد بعث كثيرا من الصحابة ليؤدوا عنه ، وكانت عادة العرب ألّا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها. قاله البيضاوي مختصرا.
ثم قال تعالى لأهل الشرك : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي : لا تفوتونه ، وإن أمهلكم ، (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) فى القتل والأسر فى الدنيا ، والعذاب المهين فى الآخرة.
__________________
(١) أخرجه البخاري فى (الصلاة ـ باب ما يستر من العورة) ومسلم فى (الحج ـ باب لا يحج البيت مشرك) كلاهما من حديث أبى هريرة ، وليس فيه ذكر قوله صلىاللهعليهوسلم : (لا يؤدى عنى إلا رجل منى) ، وقد جاءت فى رواية عند أحمد فى المسند (١ / ٣) والترمذي فى (تفسير سورة التوبة).