وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ؛ حيلولة الحق تعالى بين المرء وقلبه هو تغطيته وحجبه عن شهود أسرار ذاته وأنوار صفاته ، بالوقوف مع الحس ، وشهود الفرق بلا جمع ، ويعبر عنه أهل الفن بفقد القلب ، فإذا قال أحدهم : فقدت قلبى ، فمعناه : أنه رجع لشهود حسه ووجود نفسه ، ووجدان القلب هو احتضاره بشهود معانى أسرار الذات وأنوار الصفات ، فيغيب عن نفسه وحسه ، وعن سائر الأكوان الحسية ، وفقدان القلب يكون بسبب سوء الأدب ، وقد يكون بلا سبب ؛ اختبارا من الحق تعالى ، هل يفزع إليه فى فقده أو يبقى مع حاله.
وقد تكلم الغزالي على القلب فقال ، فى أول شرح عجائب القلب من الإحياء : إن المطيع بالحقيقة لله هو القلب ، وهو العالم بالله ، والعامل لله ، وهو الساعي إلى الله ، والمتقرب إليه ، المكاشف بما عند الله ولديه ، وإنما الجوارح أتباع ، والقلب هو المقبول عند الله ، إذا سلّم من غير الله ، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقا فى غير الله ، وهو المطالب والمخاطب ، وهو المعاتب والمعاقب ، وهو الذي يسعد بالقرب من الله ، فيفلح إذا زكاه ، ويخيب ويشقى إذا دنسه ودساه. ثم قال : وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه ، وإذا جهله فقد جهل نفسه ، وإذا جهل نفسه ، جهل ربه ، ومن جهل قلبه فهو لغيره أجهل ، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم ، فإن الله يحول بين المرء وقلبه ، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته ، ومعرفة صفاته ، وكيفية تقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن ، إلى أعلى عليين ، ويرتقى إلى عالم الملائكة المقربين ، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ، ويترصد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ، فهو ممن قال الله تعالى فيهم : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (١) الآية. ه.
وقد أنشد من وجد قلبه ، وعرف ربه ، وغنى بما وجد ، فقال :
أنا القرآن والسّبع المثاني |
|
وروح الرّوح لا روح الأوانى |
فؤادى عند معلوم مقيم |
|
تناجيه وعندكم لسانى |
فلا تنظر بطرفك نحو جسمى |
|
وعد عن التنعم بالأوانى |
فأسرارى تراءت مبهمات |
|
مستّرة بأنوار المعاني |
فمن فهم الإشارة فليصنها |
|
وإلّا سوف يقتل بالسنان |
كحلّاج المحبة إذ تبدّت |
|
له شمس الحقيقة بالتدانى |
__________________
(١) الآية ١٩ من سورة الحشر.