قال ابن جزي : قيل : معنى (ذروا) : اتركوهم فلا تجادلوهم ولا تتعرضوا لهم ، فالآية ، على هذا ، منسوخة بالقتال ، وقيل : معنى (ذروا) للوعيد والتهديد ، كقوله : (ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) (١) ، وهو الأظهر. ه. قلت : وهو أليق بقوله بعده : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الإلحاد وغيره.
الإشارة : قال القشيري بعد كلام : ويقال إن الله سبحانه وقف الخلق بأسمائه ، فهم يذكرونها قالة ، وتعزّز بذاته ، والعقول ـ وإن صفت ـ لا تهجم على حقائق الإشراف ؛ إذ الإدراك لا يجوز على الحق ، فالعقول عند بواده الحقائق متقنعة بنقاب الحيرة عن التعرض للإدراك ، وطلبه فى أحوال الرؤية. والحق سبحانه عزيز باستحقاق نعوت التعالي متفرّد. ه.
قلت : وأسماء الله الحسنى كلها تتجلى فى مظاهر الإنسان ، وتتوارد عليه انفرادا واجتماعا ، وقد تجتمع فى واحد ، إذا كان عارفا ، كلها ، بحيث يتخلق بها ، غير أن تجلياتها تختلف عليه ، تارة ملكا قدوسا ، وتارة رحمانيا رحيما ، وهكذا. وقد تقدم بيان كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها ، فى شرحنا : الفاتحة الكبير ، والله تعالى أعلم.
ولمّا ذكر فيما تقدم خواص قوم سيدنا موسى ، ذكر هنا خواص هذه الأمة المحمدية ، فقال :
(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١))
يقول الحق جل جلاله : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا) أي : ومن جملة ما خلقنا : (أُمَّةٌ) : طائفة (يَهْدُونَ) الناس (بِالْحَقِ) ويحملونهم عليه ، (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فى حكوماتهم وقضاياهم. روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «هذه الآية لكم ، وقد تقدم مثلها لقوم موسى» (٢).
قال البيضاوي : ذكر ذلك بعد ما بيّن أنه خلق للنار طائفة ضالين ، ملحدين عن الحق ، للدلالة على أنه خلق أيضا للجنة أمة هادين بالحق ، عادلين فى الأمر ، واستدل به على صحة الإجماع ، لأن المراد منه أن فى كل قرن طائفة بهذه الصفة ؛ لقوله صلىاللهعليهوسلم : «لا تزال من أمّتى طائفة على الحقّ ، إلى أن يأتى أمر الله» (٣) إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة ، فإنه معلوم. ه.
الإشارة : هذه الأمة التي خلقها الله لهداية خلقه ، وهى الطائفة التي لا تزال على الحق ، وهى مؤلفة من العلماء الأنقياء على اختلاف أصنافهم وعلومهم ، ومن الأولياء العارفين ، فالعلماء يهدون إلى التمسك بالشرائع وإتقانها ، والأولياء العارفون يهدون إلى التحقق بالحقائق وأذواقها ، فالعلماء داعون إلى أحكام الله ، والعارفون داعون إلى
__________________
(١) الآية ١١ من سورة المزمل.
(٢) أخرجه بنحوه الطبري فى التفسير (٩ / ١٣٥).
(٣) أخرجه البخاري فى (الاعتصام ـ باب قول النبي : لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق) ومسلم فى (الإمارة ـ باب قول النبي صلىاللهعليهوسلم : لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق) من حديث المغيرة.