الإشارة : أخذ الحق جل جلاله العهد على الأرواح أن تعرفه وتوحده مرتين ، أحدهما : قبل ظهور الكائنات ، والثاني : بعد ظهورها. والأول أخذه عليها في معرفة الربوبية ، والثاني تجديدا له مع القيام بآداب العبودية. قال بعضهم : أخذ الأول على الأرواح يوم المقادير ، وذلك قبل السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، ثم أخذ الثاني على النفوس بعد ظهورها فى عالم الأشباح ، كما نبهت عليه الآية والأحاديث.
وقال ابن الفارض فى تائيته :
وسابق عهد لم يحل مذ عهدته |
|
ولا حق عقد جلّ عن حلّ فترة |
قال القاشاني : أراد بالعهد السابق : ما أخذه الله على الأرواح الإنسانية المستخرجة من صلب الروح الأعظم ، الذي هو آدم الكبير ، فى صور المثل ، قبل تعلقها بالأشباح ، وهو عقد المحبة بين الرب والمربوب ، فى قوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ...) الآية. وبالعهد اللاحق : ما أخذه عليهم بواسطة الأنبياء ، من عقد الإسلام بعد التعلق بالأبدان ، وهو توكيد للعهد الأول ، وتوثيقه بالتزام أحكام الربوبية والتزامها. ه. وقال فى الحاشية : كلام ابن الفارض ينظر إلى العهد الأول ، الروحاني ، وكلام غيره ينظر إلى الثاني النفساني ، وهو ظاهر الآية. ه. قلت : وفيه نظر ، فإن كلام ابن الفارض مشتمل على العهدين معا ، الروحاني فى الشطر الأولى ، والنفساني فى الشطر الثاني.
والحاصل مما تقدم : أن العهد أخذ على الأرواح ثلاث مرات ، أحدها : حين استخرجت من صلب الروح الأعظم الذي هو آدم الكبير ، وهو معنى القبضة النورانية ، التي أخذت من عالم الجبروت. والثاني : حين استخرجت من صلب آدم الأصغر ، كالذر ، والثالث : حيث دخلت فى عالم الأشباح ، على ألسنة الرسل ، ومن ناب عنهم ، فالمذكور فى الآية هو الثاني ، وهو أحسن من حمل القاشاني الآية على الأول.
فالحاصل : أن الأخذ الأول كان على الأرواح مجردة عن مادة التطوير والتمثيل ، بإقرارها إقرار النفوس ، لا إقرار الألسنة ، والأخذ الثاني كان على الأرواح بعد خروجها من الوجود العلمي إلى الوجود العيني ، فتطورت الأرواح بصفاتها الذاتية ، من سمع وبصر ولسان وغيرها ، فى عالم المثال ، بصور مثالية ؛ لتبصر بها ظهور الرب ، وتسمع خطابه ، وتجيب سؤاله ، بإقرارها حينئذ إقرار الألسنة ، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية. وأما العهد الذي أخذه بواسطة الأنبياء في ظهور عالم الأشباح فإنما هو تذكير للعهدين ، وتجديد لهما ، وهو الذي تقوم به الحجة عليها ، فلا بد من انضمامه إلى الأوّلين فى قيام الحجة ، كما تقدم.
فالموجودات ثلاث : علمى ، ثم خيالى مثالى ، ثم نوعى حسى. فأخذ على كل واحد عهد ؛ من الأولين بلا واسطة ، والثالث بواسطة الرسل. والله تعالى أعلم.