ينظر للمعنى وما يفيده الاستفهام الإنكارى من نفيه للنفى ، فيصير الكلام إيجابا ، فيصح الجواب بنعم فى الجملة ، لكن لمّا كان محتملا امتنع فى الآية. انظر المغني. وقوله : (أن تقولوا) : مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكروا (إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ؛ من ظهور بنى آدم (ذُرِّيَّتَهُمْ) ؛ وذلك أن الله تعالى لمّا خلق آدم ، وأهبطه إلى الأرض ، أخرج من صلبه نسيم بنيه ، بعضهم من صلب بعض ، على نحو ما يتوالدون ، قرنا بعد قرن كالذر ، وكان آدم بنعمان ، وهو جبل يواجه عرفة ، وقال لهم حين أخرجهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)؟ فأقروا كلهم ، و (قالُوا بَلى) أنت ربنا ، (شَهِدْنا) بذلك على أنفسنا ، لأن الأرواح حينئذ كانت كلها على الفطرة ، علّامة درّاكة ، فلما ركبت فى هذا القالب نسيت الشهادة ، فبعث الله الأنبياء والرسل يذكّرون الناس ذلك العهد ، فمن أقرّ به نجا ، ومن أنكره هلك ، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التمثيل ، وأن أخذ الذرية من الظهر عبارة عن إيجادهم فى الدنيا ، وأما إشهادهم فمعناه : أن الله نصب لبنى آدم الأدلة على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم ، وقال : (ألست بريكم)؟ وكأنهم قالوا بلسان الحال : أنت ربنا.
والأول هو الصحيح ؛ لتواتر الأخبار به ، فقوله : (شهدنا) : هو من تمام الجواب ، فهو تحقيق لربوبيته وأداء لشهادتهم بذلك ، فينبغى أن يوقف عليه ، وقيل : إنّ (شهدنا) : من قول الله أو الملائكة ، فيوقف على (بلى) ، لكنه ضعيف.
ثم ذكر حكمة هذا الأخذ ، فقال : (أَوْ تَقُولُوا) أي : فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) ، أو كراهية أن تقولوا : (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم ، (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) ، يعنى : آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك ، ولا بد من حذف كلام هنا لتتم الحجة ، والتقدير : أخذنا ذلك العهد فى عالم الأرواح ، وبعثنا الرسل يجددونه في عالم الأشباح ، كراهة أن تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين ، ويدل على هذا قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ...) الآية (١). وقوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) (٢) ، ولا يكفى مجرد الإشهاد الروحاني فى قيام الحجة ؛ لأن ذلك العهد نسيته الأرواح حين دخلت فى عالم الأشباح ، فلا تهتدى إليه إلا بدليل يذكرها ذلك.
قال البيضاوي : والمقصود من إيراد هذا الكلام هاهنا : إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام ، بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم ، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ، ومنعهم من التقليد ، وحملهم على النظر والاستدلال ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) الدالة على وحدانيتنا سمعا وعقلا ، (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن التقليد واتباع الباطل.
__________________
(١) الآية ١٥ من سورة الإسراء.
(٢) الآية ١٦٥ من سورة النساء.