ثم قال تعالى فى شأن اليهود :
(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠))
قلت : (أمما) : مفعول ثان لقطّعنا ، أو حال ، وجملة (منهم الصالحون) : صفة ، وجملة (يأخذون) : حال من فاعل (ورثوا) ، و (يقولون) عطف على (يأخذون) ، أو حال ، والفعل من (سيغفر) : مسند إلى الجار والمجرور ، أو إلى مصدر (يأخذون) ، و (أن لا يقولوا) : عطف بيلن من (ميثاق الكتاب) ، أو تفسير له ، أو متعلق به ، أي : لأن لا يقولوا ، و (درسوا) : عطف على (ألم يؤخذ) من حيث المعنى ، أي : ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ولم يدرسوا ما فيه ، أو حال ، أي : وقد درسوا ، و (الذين يمسكون) : مبتدأ ، وجملة : (إنا لا نضيع أجر المصلحين) : خبر ، والرابط : ما فى المصلحين من العموم ، فوضع موضع الضمير ؛ تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع ، أو حذف العائد ، أي : منهم ، ويحتمل أن يكوت عطفا على (الذين يتقون) أي : خير للمتقين والذين يتمسكون بالكتاب.
يقول الحق جل جلاله : (وَقَطَّعْناهُمْ) أي : فرقناهم (فِي الْأَرْضِ أُمَماً) : فرقا ، ففى كل بلد من البلدان فرقة منهم ، فليس لهم إقليم يملكونه ، تتمة لإذلالهم ، حتى لا تكون لهم شوكة قط ، (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) وهو من تمسك بدين التوراة ، ولم يحرف ، ولم يفرق ، أو من آمن منهم بالنبي صلىاللهعليهوسلم فى زمانه وبعده ، (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي : ومنهم ناس دون ذلك ، أي : منحطون عن الصلاح ، وهم كفرتهم وفسقتهم ، (وَبَلَوْناهُمْ) أي : اختبرناهم (بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) أي : بالنعم والنقم ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ؛ ينتبهون فينزجرون عمّا هم عليه.
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) أي : فخلف ، من بعد الأولين ، خلف ، أي : بدل سوء ، وهو مصدر نعت به ، فالخلف ، بالسكون ، شائع فى الشر ، يقال : جعل الله منك خلفا صالحا. والمراد بالخلف فى الآية : اليهود الذين أدركوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، (وَرِثُوا الْكِتابَ) ؛ التوراة ، من أسلافهم ، يقرؤونها ويقفون على ما فيها ، (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) ؛ حطام هذا الشيء الحقير ، من الدنو ، أو من الدناءة ، وهو ما كانوا يأخذون من الرشا فى الأحكام ، وعلى تحريف الكلام. (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) ؛ لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه ، اغترارا وحمقا.