قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) ؛ وهو ما أمرهم من قتل أنفسهم ، أو الطاعون الذي سلط عليهم ، (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهى ضرب الجزية والهوان إلى يوم القيامة ، (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) على الله ، ولا فرية أعظم من فريتهم ، حيث (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) ، ولعله لم يفتر أحد مثلها قبلهم ولا بعدهم ، حيث جعلوا البقر إلههم وإله الرسول ، نسأل الله الحفظ.
ثم ذكر توبتهم ، فقال : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) من الكفر والمعاصي ، (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) ؛ من بعد السيئات (وَآمَنُوا) واشتغلوا بما يقتضيه الإيمان من الأعمال الصالحات ، (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد التوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وإن عظم الذنب ؛ كجريمة عبدة العجل ـ وكثر ؛ كجرائم بنى إسرائيل.
الإشارة : الغضب لله وبالله ، والأسف على دين الله ، من أمارة الغيرة على دين الله ، لكنّ صاحب هذا المقام مالك نفسه ، يظهر الغلظة ويبطن الرحمة ، قياما بشهود الحكمة والقدرة ، وأما ما صدر من سيدنا موسى ـ عليهالسلام ـ فتشريع لأهل التشريع ، لئلا يقع التساهل في تغيير المناكر. وساق الإمام الهروي هذه الآية في منازل السائرين في باب المراد ، وهو المخصوص من ربه بما لم يرده هو ولا خطر بباله ، والإشارة بذلك إلى الضنائن الذين ورد فيهم الخبر : «إنّ لله ضنائن من خلقه ، ألبسهم النور السّاطع ، وغذاهم في رحمته ، وفعل بهم وفعل ...» أورده الإمام أبو نعيم في الحلية (١).
وحاصله : أن المرادين هم قوم مخصوصون ، ملطوف بهم ، محمول عنهم ، ومنه : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (٢) فقد خص ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما لم يخطر على باله قبل النبوة.
قال الهروي : والمراد : ثلاث درجات : الدرجة الأولى : أن يعصم العبد وهو مستشرف للجفا ؛ اضطرارا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ ، وسد مسالك المعاطب عليه ، إكراما ، والدرجة الثانية : أن توضع عن العبد عوراض النقص ، ويعافيه من سمة اللائمة ، ويملكه عواقب الهفوات ، كما فعل لسليمان عليهالسلام فى قتل الخيل ؛ حمله على الريح الرخاء ، فأغناه عن الخيل ، وكما فعل لموسى عليهالسلام ؛ حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه لم يعتب عليه كما عتب على آدم ونوح وداود ويونس ـ عليهمالسلام. ه.
قال شارحه الإمام عبد المعطي السكندري : وهذه الدرجة أتم في الحمل علي الأعمال وركوب الأهوال ، والتلطف في تعليم الإقبال مما قبلها ، فإن ما قبلها منع من الشهوات ، وصيانة عن الآفات ؛ جبرا وقهرا وحفظا ، وهذا حفظ عنها ؛ بإظهار صفح برفق وإكرام ولطف ، فتقوى المحبة في القلب ، فيحمل ذلك على سرعة الموافقة ، ومتى
__________________
(١) الجزء الأول ص ٦ بنحوه عن ابن عمر ـ مرفوعا.
(٢) من الآية ٨٦ من سورة القصص.