عليهم صالح مواثيقهم : لئن فعلت ذلك لتؤمنن؟ قالوا : نعم ، فصلى ، ودعا ربه ، فتمخضت الصخرة تمخّض النتوج بولدها ، فانصدعت عن ناقة عشراء ، جوفاء وبراء كما وصفوا ، وهم ينظرون ، ثم أنتجت ولدا مثلها فى العظم ، فآمن به جندع فى جماعة ، ومنع الناس من الإيمان : ذؤاب بن عمرو ، والحباب صاحب أصنامهم ، ورباب كاهنهم.
فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر ، وترد الماء غبّا ، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ، ثم تنفحج (١) ، فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم ، فيشربون ويدخرون ، وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه ، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره ؛ فشق ذلك عليهم ، فزينت عقرها لهم «عنيزة أم غنم» وصدقة بنت المختار ، فعقروها واقتسموا لحمها ، وعاقرها : الأحمر ، واسمه قدار ، استعان برجل آخر ، فلما شربت اختبأ لها فى جانب تل ، فضربها صاحبه بالسهم ، وعقرها قدار بسيفه ، واقتسموا لحمها ، فرقى ولدها جبلا اسمه : قارة ، فرغى ثلاثا ، ودخل صخرة أمه ، فقال لهم صالح عليهالسلام : أدركوا الفصيل ، عسى أن يرفع عنكم العذاب ، فلم يقدروا عليه حيث دخل الصخرة بعد رغائه ، فقال لهم صالح عليهالسلام : تصبح وجوهكم غدا مصفرة ، وبعد غد محمرة ، واليوم الثالث مسودة ، ويصبحكم العذاب ، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه ، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان ضحوة اليوم الرابع : تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع ، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ، ظاهره : أن توليته عنهم بعد أن أبصرهم جاثمين ؛ ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم ، كما خاطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم أهل قليب بدر ، وقال لهم : «قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا ، فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا؟» (٢) أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم. قاله البيضاوي.
الإشارة : كل ما قص علينا الحق ـ جل جلاله ـ من قصص الأمم الماضية ، فالمراد به : تخويف هذه الأمة المحمدية وزيادة فى يقينهم ، فالواجب على من أراد السلامة فى الدارين أن يتمسك بما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم من غير زيادة ولا نقصان ، ويتحرى فى ذلك جهده ؛ يقصد بذلك رضا الله ورسوله. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣) ، ومن سلك الطريق المستقيم وصل إلى النعيم المقيم. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) الفحج : تباعد ما بين الفخذين. انظر النهاية (فحج).
(٢) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (المغازي ـ باب قتل أبى جهل) عن ابن عمر رضى الله عنه.
(٣) من الآية ١٠١ من سورة آل عمران.