ثم ذكر حكمة إنزال الكتاب ، فقال :
(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢))
قلت : (كتاب) : خبر ، أي : هذا كتاب ، و (أنزل) : صفته ، والحرج : الضيق ، و (لتنذر) : متعلق بأنزل ، أو بلا يكن ، لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار ، وكذا إذا لم يخفهم ، و (ذكرى) : يحتمل النصب بإضمار فعل ، أي : لتنذر ولتذكر ذكرى ، والجر عطف على (لتنذر) ، أي : للإنذار والتذكير ، والرفع عطف على (كتاب).
يقول الحق جل جلاله : هذا (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من ربك ، (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي : ضيق وثقل من أجل تبليغه لمن يكذب به ، مخافة أن تكذّب فيه ، أو مخافة أن تقصر على القيام بتبليغه ، أو بحقوقه ، وتوجيه النهى إلى الحرج للمبالغة ، كقولك : لا أرينك هاهنا ، كأنه قال : فلا يحرج صدرك منه ، وإنما أنزلناه إليك لتنذر به من بلغه ، (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : وتذكيرا وموعظة للمؤمنين ؛ لأنهم هم المنتفعون بمواعظه.
الإشارة : تذكير أهل الإنكار ووعظهم يحتاج إلى سياسة كبيرة وحلم كبير وصبر عظيم ، لا يطيقه إلا الأكابر من أهل العلم بالله ؛ كالأنبياء والصديقين ، لسعة معرفتهم ، واتساع صدورهم لحمل الجفاء وتحمل الأذى ، ونهيه تعالى لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن ضيق صدره : تشريع لورثته من بعده ؛ الداعون إلى الله ـ عزوجل وإلّا فهو صلىاللهعليهوسلم بحر واسع ، لا تكدره الدّلاء ، كما قال البوصيرى.
فهو البحر والأنام إضاء (١) والله تعالى أعلم.
ثم حضّ على الإتباع ، فقال :
(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))
قلت : (قليلا) : صفة لمصدر ، أو زمان محذوف ، أي : تتذكرون تذكرا قليلا ، أو زمانا قليلا ، والعامل فيه : تذكرون ، و (ما) : زائدة لتأكيد القلة.
__________________
(١) الإضاءة : جمع إضاءة ، وهى : الغدران ـ جمع غدير. قلت : وهذا شطر بيت ، أوله : لا تقس بالنبيّ فى الفضل خلقا.