يقول الحق جل جلاله : ومثل ذلك التزيين الذي وقع لهم فى الحرث والأنعام ، (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) ؛ زين لهم ذلك شركاؤهم من الجن ، أو من السدنة ، وحملوهم عليه ، خوفا من الجوع أو من العار ، وكانوا يقتلون البنات دون البنين ، زينوا لهم ذلك (لِيُرْدُوهُمْ) أي : ليهلكوهم بالإغواء ، (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي : ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل ، أو ما وجب عليهم أن يتدينوا ب ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) أي : ما فعل المشركون ما زين لهم ، أو ما فعل الشركاء التزيين ، أو الفريقان جميع ذلك ، (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي : اتركهم مع افترائهم ، أو : والذي يفترونه من الإفك ، وهذا قبل الأمر بالسيف ، ثم نسخ به.
الإشارة : مما ينخرط فى سلك الآية : إهانة البنات وتعظيم البنين ، وقد نهى الشارع ـ عليه الصلاة السلام ـ عن تخصيص الذكور بالوصية ، وقال للذى أراد أن يفعله : «لا تشهدنى على جور» ، وهنا إشارة أرق من هذا ، وهو أن يراد بالأولاد ما تنتجه الفكرة الصافية من العلوم والمواهب ، وقتلها : إهمال الفكرة عن استخراجها حتى ضاعت عليه ، والذي زين له ذلك هو شرك القلب ، واشتغاله برسوم الفرق ، حتى تعطلت الفكرة ، وماتت تلك العلوم من قلبه ، وقع ذلك التزيين بأهل الفرق ليسقطوهم عن درجة المقربين ؛ أهل العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، وليلبسوا عليهم دينهم بالخواطر والشكوك ، والأوهام ، ولو شاء الله لهدى الناس جميعا.
ثم ذكر أيضا نوعا آخر من جهالتهم ، فقال :
(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨))
قلت : (حجر) : فعل ، بمعنى مفعول ، يستوى فيه الواحد والكثير ، والمذكر والمؤنث ، ومعناه : حرام ، و (افتراء) : حال ، أو مفعول من أجله ، أو مصدر.
يقول الحق جل جلاله : (وَقالُوا) أيضا : (هذِهِ) الأشياء التي جعلوها لأصنامهم ، وهى (أَنْعامٌ وَحَرْثٌ) ، هى (حِجْرٌ) أي : حرام محجر ، (لا يَطْعَمُها) ؛ لا يأكلها (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) ، وهم خدام الأوثان وسدنتها ، والرجال دون النساء. قالوا ذلك (بِزَعْمِهِمْ) وافترائهم من غير حجة ، (وَأَنْعامٌ) أخرى (حُرِّمَتْ ظُهُورُها) ؛ وهى البحائر والسوائب والحوامي ، (وَأَنْعامٌ) أخرى (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) فى الذبح ، وإنما يذكرون عليها اسم آلهتهم ؛ (افْتِراءً) على الله ، لأنهم قسموا أموالهم على هذه القسمة ، ونسبوا ذلك إلى الله ؛ افتراء وكذبا ، (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : بسببه فيعذبهم عليه.