الأزمنة والليل والنهار ، أو حسبانا كحسبان الرّحا يدور بهما الفلك دورة بين الليل والنهار ، (ذلِكَ) التسيير بالحساب المعلوم ، هو (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) الذي قهرهما بعزته ، وسيرهما على ذلك السير البديع بعلمه وحكمته.
الإشارة : إذا أحب الله عبدا فلق حبة قلبه بعشقه ومحبته ، وفلق نواة عقله بالتبصر فى عجائب قدرته ، فلا يزال قلبه يميل إلى حضرته ، وعقله يتشعشع أنواره بازدياد تفكره فى عجائب عظمته ، حتى تشرق عليها شمس العرفان ، فيفلق عمود فجرها عن ظلمة ليل وجود الإنسان ، فيصير حيا بمعرفته ، بعد أن كان ميتا بجهله وغفلته ، فيميته عن شهود نفسه ، ثم يحييه بشهود ذاته ، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ، جاعل ليل العبودية سكنا ، وشمس العرفان وقمر الإيمان حسبانا ، تدور الفكرة بأنوارهما ، كما يدور الفلك بالشمس والقمر الحسّيين ، ذلك تقدير العزيز العليم.
ثم ذكر برهانا آخر ، فقال :
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧))
يقول الحق جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها) أي : ببعضها (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : فى ظلمات الليل فى البر والبحر ، وأضاف الظلمات إليهما ؛ لملابستها بهما ، أو فى مشتبهات الطرق فى البر والبحر ، وسماها ظلمات على الاستعارة ، (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) ؛ بيناها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإنهم المنتفعون بها.
الإشارة : جعل الحق ـ جل جلاله ـ نجوم العلم يهتدى السائرون بها فى مشكلات أمور الشريعة وأمور الحقيقة ، فلبر الشريعة علم يسير به أهله إلى جنته ورضوانه ، ولبحر الحقيقة علم يسير به أهلها الطالبون لها إلى معرفة ذاته وصفاته ، وشهودها فى حال جلاله وجماله ، ولله در المجذوب رضى الله عنه ، حيث قال :
العلم مرايا من هند ، والجهل صندوق راشى |
|
من لاقرايشيعرف الله ماهومبنى على شى(١) |
ثم ذكر دليلا آخر ، فقال :
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨))
__________________
(١) زجل بلهجة مغربية.