فطرة الأزل بلزوم سمة العبودية بلا علة الاكتساب ، عند سبق الإرادة. انتهى. قلت : وحاصل كلامه : أن مجيئهم فرادى ، كناية عن دخولهم الحضرة القدسية بعد تقديس الأرواح وتطهيرها ، حتى رجعت لأهلها ، كما خلقها أول مرة ، أعنى : مقدسة من شواهد الحس ، مطهرة من لوث الأغيار ، على فطرة الأزل ، فشبه مجيئها الثاني بعد التطهير ببروزها الأول ، حين كانت على أصل التطهير ، كأنه قال : ولقد جئتمونا فرادى من الحس وشهود الغير كما خلقناكم كذلك فى أول الأمر. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي : من العلوم الرسمية ، والطاعات البدنية والكرامات الحسية ، قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى العارف : كنت أعرف أربعة عشر علما ، فلما علمت علم الحقيقة سرطت ذلك كله ، فلم يبق لى إلا التفسير والحديث والمنطق. ه. وقوله تعالى : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) إشارة إلى أنهم دخلوا من باب الكرم لا من باب العمل. والله تعالى أعلم.
ثم شرع يذكر دلائل توحيده وتعريف ذاته ، فقال :
(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦))
قلت : (ومخرج) : معطوف على (فالق) ، على المختار ؛ لأنّ (يخرج الحي) ـ واقع موقع البيان له ، و (سكنا) : مفعول بفعل محذوف ، أي : جعله سكنا ، إلا أن يريد بجاعل : الاستمرار ، فحينئذ ينصب المفعول.
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) أي : يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها ، ويفلق النوى لخروج الشجر منها ، (يُخْرِجُ الْحَيَ) أي : كل ما ينمو من الحيوان والنبات ؛ ليطابق ما قبله ، (مِنَ الْمَيِّتِ) مما لا ينمو كالنطف والحب. (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أي : ومخرج الحب والنّطف من الحي ، (ذلِكُمُ اللهُ) أي : ذلكم المخرج والمحيي المميت هو الله المستحق للعبادة دون غيره ، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ؛ تصرفون عنه إلى غيره.
(فالِقُ الْإِصْباحِ) أي : شاقّ عمود النهار عن ظلمة الليل ، (وَجَعَلَ) (١) (اللَّيْلَ سَكَناً) أي : يسكن فيه من تعب النهار للاستراحة ، (وَ) جعل (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي : على أدوار مختلفة ، يعلم بها حساب
__________________
(١) قرأ عاصم وحمزة والكسائي ـ وكذا خلف ـ : (جعل) فعلا ماضيا. وقرأ باقى السبعة (جاعل) باسم الفاعل مضافا إلى الليل.