سكن ؛ لبقاء خيال ذلك فى حق غير الأنبياء. وأما هم فلم يبق لهم ظلّ الهوى ، فبشّروا بالنجاة ؛ فلم تغرهم البشرى ؛ لأنهم لم يبق لهم نفوس ، فتستبدّ وتجور إذا أمنت السقوط ، ومن بعدهم بقي لهم فى نفوسهم شىء فمنعوا البشرى ، وأبهم عليهم الأمر ؛ صنعا بهم ؛ ونظرا لهم ، لتكون نفوسهم منقمعة بخوف الزوال. هذا هو الأصل فافهمه. ه.
وحاصل كلامه : أن غير الأنبياء لا ينقطع عنه خوف التحويل ، بل يسكن خوفه فقط ، ولا يبشّر بالأمن إلا الأنبياء ، وهو الصواب ، لبقاء قهر الربوبية فوق ضعف العبودية ، قال تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) (١). والله تعالى أعلم.
ثم مدح خليله بما أظهر على يديه من الحجة والعلم ، فقال :
(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))
قلت : (على قومه) : متعلق بحجتنا ، إن جعل خبرا عن (تلك) ، وبمحذوف ، إن جعل بدله ، أي : وتلك الحجة آتيناها إبراهيم حجة على قومه. ومن قرأ : «درجات : بالتنوين ؛ فمن نشاء : مفعول ، ودرجات : تمييز.
يقول الحق جل جلاله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) ، إشارة إلى ما تقدم من استدلاله على وحدانيته تعالى بأفول الكوكب والقمر والشمس ، واحتجاجه بذلك على قومه ، وإتيانه إياها : وإرشاده لها وتعليمه إياها ، قال تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) فى العلم والحكمة ، أو فى اليقين والمعرفة ، (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) فى رفعه وخفضه ، (عَلِيمٌ) بحال من يرفعه ويخفضه ، وبحال الاستعداد لذلك.
الإشارة : رفع الدرجات فى جنات الزخارف يكون بالعلم والعمل وزيادة الطاعات ، ورفع الدرجات فى جنة المعارف يكون بكبر اليقين ، والترقي فى شهود رب العالمين. وذلك بحسب التبتل والانقطاع ، والتفرغ من شواغل الحس ودوام الأنس. والله تعالى أعلم.
ومما خصّ به إبراهيم عليهالسلام وكان زيادة فى درجته ، أن الأنبياء جلّهم من ذريته ، كما قال تعالى:
(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ
__________________
(١) من الآية ١٨ من سورة الأنعام.