وقد كان المشركون يقرّون بالصانع ويخلطون معه التصديق بربوبية الأصنام ، فقد آمنوا بوجود الصانع ، ولكنهم لبسوا إيمانهم بالشرك ، فلا أمن لهم ولا هداية. وبهذا يرد جهالة الزمخشري فى إنكاره الحديث الصحيح ، ولو بقي الظلم على عمومه ـ أي : ولم يخلطوا إيمانهم بمعصية ـ لصحّ ، ويكون المراد بالأمن أمنا خاصا وهداية خاصة ، لكن ما قاله ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوقف عنده.
الإشارة : العارف بالله ، المتحقق بوحدانية الله ، لا يسكن خوف الخلق فى قلبه ، ولا ينظر إلا إلى ما يبرز من عند ربه ، فإن وعده بالعصمة أو الحفظ لم يترك بذلك التضرع والالتجاء إلى ربه ؛ لسعة علمه تعالى ، وقد يكون ذلك متوقفا على أسباب وشروط ، أخفاها الحق تعالى إظهارا لقهريته ، ولذلك قال الخليل عليهالسلام : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً). وقال سيدنا شعيب عليهالسلام : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (١). فالعارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، وأما الأمن من التحويل والانقلاب ، فاختلف فيه ؛ فقال بعضهم : يحصل للولىّ الأمن ، إذا تحقق بمقام القرب ، وحصل له الفناء والبقاء ، متمسكا بقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ). وقال بعضهم : لا يحصل الأمن إلا للأنبياء ـ عليهمالسلام ـ ؛ للعصمة.
قال الورتجبي : مقام الأمن لا يحصل لأحد ، مادام هو بوصف الحدثية ، وكيف يكون آمنا منه وهو فى رقّ العبودية ويعرف نفسه بها ، ويعرف الحق بوصف القدم والبقاء وقهر الجبروت؟ وقال تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٢). فإذا رأى الله تعالى بوصف المحبة والعشق والشوق ، وذاق طعم الدنو ، واتّصف بصفات الحق ، بدا له أوائل الأمن ، لأن فى صفة القدم لا يكون علة الخوف والرجاء ، لأن هناك جنة القرب والوصال ، وهم فيها آمنون من طوارق القهر ، وهم مهتدون ماداموا متصفين بصفاته ، وإن كانوا فى تسامح من مناقشة الله بدقائق خفايا مكره. ه.
فظاهر كلامه ، أن المتحقق بمقام الفناء والبقاء ، يحصل له الأمن من الشقاء ، وكذلك قال أبو المواهب : من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء. وقال فى نوادر الأصول : من حظّه من أهل التقريب : الجلال والجمال ، وقد أقيم فى الهيبة والأنس ، قد غاب عن خوف العقوبة ، ولكنه يخاف التحويل والهوى والسقوط ، لما ركب فى نفوس بنى آدم من الشهوات ، فهن أبدا يهوين بصاحبهن عن الله إلى الإخلاد والبطء ، وإنما يسكن خوف التحويل إذا خلص إلى الفردانية وتعلّق بالوحدانية ؛ لتلاشى الهوى منه والشهوة ؛ بكشف الغطاء ، ولا يذهب خوف ذلك بالكلّية عنه ، وإن
__________________
(١) الآية ٨٩ من سورة الأعراف.
(٢) الآية ٩٩ من سورة الأعراف.