(... وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))
قلت : (تبسل) : تحبس وتسلم للهلكة ، وفى البخاري : «تبسل : تفضح ، أبسلوا : فضحوا وأسلموا» (١).
يقول الحق جل جلاله لنبيه ـ عليه الصلاة السلام ـ : (وَذَكِّرْ) بالقرآن الناس ؛ مخافة (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أي : لئلا تحبس كل نفس وترتهن بما كسبت أو تسلم للهلكة ، أو لئلا تفضح على رؤوس الأشهاد بما كسبت ، (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) يدفع عنها العذاب ، (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) أي : وإن تفد كل فداء (لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي : لا يقبل منها.
(أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) أي : أسلموا للعذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة ، أو افتضحوا بما كسبوا (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) وهو الماء الحار ، (وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) ، والمعنى : هم بين ماء مغلى يتجرجر فى بطونهم ، ونار تشعل بأبدانهم بسبب كفرهم ، والعياذ بالله.
الإشارة : لا ينبغى للشيخ أو الواعظ أن يمل من التذكير ، ولو رأى من أصحابه غاية الصفاء ، ولا ينبغى للمريد أن يمل من التصفية والتشمير ، ولو بلغ من تصفية نفسه ما بلغ ، أو أظهرت له من الاستقامة ما أظهرت ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها).
قال أبو حفص النيسابورى رضى الله عنه : من لم يتّهم نفسه على دوام الأوقات ، ولم يخالفها فى جميع الأحوال ، ولم يجرها إلى مكروهها فى سائر أيامه ، كان مغرورا ، ومن نظر إليها باستحسان شىء منها فقد أهلكها ، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه ؛ والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ، يقول : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (٢). وقال أيضا : منذ أربعين سنة اعتقادي فى نفسى ـ أن الله ينظر إلىّ نظر السخط ، وأعمالى تدل على ذلك. وقال الجنيد رضى الله عنه : لا تسكن إلى نفسك ، وإن دامت طاعتها لك فى طاعة ربك. وقال أبو سليمان الداراني رضى الله عنه : (ما رضيت عن نفسى طرفة عين). إلى غير ذلك من مقالاتهم التي تدل على عدم الرضى عن النفس وعدم القناعة منها بالتصفية التي أظهرت.
ويحكى عن القطب ابن مشيش ؛ أنه لما بلغ فى تلاوته هذه الآية ، تواجد وأخذه حال عظيم اقتطعه عن حسه ، حتى كان يتمايل ، فيميل الجبل معه يمينا وشمالا. نفعنا الله بذكرهم آمين.
__________________
(١) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الأنعام) من قول ابن عباس. رضى الله عنه.
(٢) من الآية ٥٣ من سورة يوسف.