حال ، حتى تكون دهرا قطرا ، وليلها ونهارها واحدا بدائم. نجد مع ذلك الذي ينبغي منه دوام بقائه واتصاله وصفائه ، هو ماء نيلهم الأعظم وعزهم الأكبر. فهو الذي لا دوام لمائه ولا اتصال لطيبه وصفائه. فإن مثل الناس بين الهواء بمصر وبين أزمان بغداد المعدلات ، وبين نيلها وما فيه من الحوادث الهائلات والعجائب الطارقات ، وكثيرا مما لا يطيب استماعه ـ فضلا عن مشاهدته ـ ولو لا ما قد جرت لأهله العادات ، وبين ماء دجلتنا والفرات وغياث السحائب الربيعيات ، وأيام الشتاء المدجنات ، وما في السماء من البركات ، ميّلوا باطلا وأضاعوا محصولا.
وقد زعم كثير من أهل النظر أنه لولا طلسم بمصر لأغرقها النيل والبحر. وأن بلدا لا تقوم أركانه ، وثبات أهله وجيرانه إلّا بحيلة من المربوبين ، لا يؤمن فسادها ، وبعاصمة من المخلوقين تشوبها الظنون ، وتزول بدونها عقد اليقين ، لعلى خطر عظيم وغرر جليل.
هذا وليس بين أن ترى ساكنيه عطشى يتشطحون وبين أن يكونوا في السفائن [٤٧ ب] والزواريق يتزاورون ، وفي مراكب الطوفان يذهبون ويجيئون فرقا في مواقيت معلومة من الزمان وأحوال معتادة من الأيام.
ومما يزيد بعده بمقادير عقول المصريين ، ويجوز لك الدليل على موازين المعدلين بين مصر ومدينة السلام ، أن يعلم أن قوما قد زعموا أن الأحكام لم تكن لتملّك على قوم ملكا ، وذلك الملك أنقصهم عقلا ولا أوضعهم رأيا ولا أسيرهم نهما ولا أصغرهم علما ، مع تقدم الشهادات لعقول الملوك خاصة. وبالخواص التي تكون مقرونة بهم ومنسوبة إلى قرائحهم ، عدل الملك في زمانه أو جاره.
وإذا كان هذا هكذا ، ثم وجدنا فرعون قد ملك مصر دون غيرها وغلب عليها دونما سواها (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ، فما ظنك بعقول قوم هذا عقل من ملّكوه عليهم. ومغرس هذه آثار ثماره ، ونتائج أشجاره. ونحن قد فوضنا مصر إلى خمارويه وزدناه من الأقطار إلى حدود الأنبار.
وإذا ذهبنا نقابل المصرين بما ببغداد من الفضائل : وزيرا بوزير وأميرا بأمير