فإنّ هذا الاعتراض مندفع عنه ، لأنّا قد بيّنّا فيما سبق أنّ العلم بالمعنى المصدريّ وإن كان عبارة عن انكشاف شيء على شيء ، لكنّه بمعنى ما يحصل به الانكشاف إنّما هو صورة حاصلة من شيء في شيء. وبيّنّا أيضا هنالك أنّه ما لم يحصل تلك الصّورة الحاصلة ، لا يحصل العلم ولا الإدراك مطلقا. إلّا أنّ الصّورة الحاصلة من الشيء الجزئيّ المادّيّ ، إنّما تحصل في آلات النّفس وبتوسّط حصولها فيها وإدراك قواها لها ، تكون هي مدركة للنّفس بالإدراك الحصوليّ ، إذا أخذ كونها صورة للمعلوم ومعلومه ، أو بالإدراك الحضوري إذا أخذ كونها علما وحاضرة بذاتها عند النّفس. والصّورة الحاصلة من المفارق الجزئيّ ، وكذا الصّورة العقليّة الكلّيّة ، إنّما تحصل في النّفس بذاتها ، فما لم تحصل تلك الصّورة الحاصلة المدركة في ذات المدرك ، لم يحصل الإدراك. فتلك الصّورة هي الأصل في كونها منشأ للإدراك والعلم ، وإن كان يحصل هناك انفعال خاصّ وإضافة خاصّة أو فعل خاصّ أيضا ، ولا نناقش في إطلاق اسم العلم أو الإدراك عليها.
فما ذكره هذا القائل ، من أنّ العلم يجوز أن يكون بمجرّد انكشاف الأشياء على النّفس من دون ارتسام صورها فيها ، بل في مجرّد آخر ، أو من دون ارتسام صورة شيء في شيء أصلا ، باطل.
وأيضا إنّا لا ننفي أن يكون صور الأشياء مرتسمة في مجرّد آخر كالعقل الفعّال مثلا ، فيلاحظها النّفس من هناك ، كما في حالة ذهولها عنها واتّصالها بالعقل الفعّال فيلاحظها فيه ، إلّا أنّا ندّعي أنّها عند ملاحظتها تلك الصورة فيه ، تحصل تلك الصّورة كما هي عليه في النّفس باتّصالها به ، وهذا معنى ملاحظتها إيّاها من هناك ، فتبصّر.
ومثل ما قيل : سلّمنا أنّ العلم بارتسام الصّورة ، لكن جاز أن لا تكون تلك الصّورة مساوية للمعلوم في تمام الماهيّة ، بل يكون كنقش الفرس على الجدار ، وحينئذ لا يكون هذه الصّورة مجرّدة ، بل المجرّد ما له هذه الصّورة. وليس يلزم من اتّصاف هذه الصّورة بالعوارض المادّيّة ، أن لا يكون ذو الصّورة مجرّدا عنها ، فإنّه أيضا مندفع عنه ، حيث إنّ ما ذكره مبنيّ على أنّ تلك الصّورة عبارة عن أشباح الأشياء ، كما هو عند القائلين بحصول