وأما الحجة الرابعة : وهي الإحسان إلى المريض الأعمى ، الذي يكون في صحراء ليس فيها أحد. فالجواب : أن فيه رعاية المصالح من وجوه :
الأول : إن الإنسان جبل بحيث كل ما يراه في غيره من أبناء جنسه ، فإنه يفرضه في حق نفسه. فلمّا رأى هذا الشخص ذلك المريض على تلك الحالة ، سبق وهمه وخياله إلى فرض تلك الحالة في حق نفسه ، وحينئذ يميل طبعه إلى السعي في تخليصه من ذلك البلاء ، ولو لم يفعل ذلك فإنه يتألم قلبه. فكان إقدامه على ذلك العمل موجبا لدافع الرقة الجنسية عن القلب. وهو مصلحة عظيمة.
والثاني : إن من الأوضاع المعتبرة في حفظ مصالح العالم ترغيب الخلق في الإحسان ، على رجاء أنه لو اتفق له مثل تلك الحالة سعوا في إفاضة الرحمة عليه ، وإذا كان هذا المعنى معتبرا في مصالح العالم ، لا جرم اصطلح الناس على تحسينه وتقبيح تركه.
ولما ألف الناس هذا الاصطلاح وتوافقوا عليه ، واستمروا عليه ، من أول العمر ، إلى آخره ، لا جرم تقررت تلك الأحوال في قلوبهم وعقولهم. فيثبت أن مجموع هذه الوجوه التي ذكروها ، لا تخرج عن رعاية المصالح والمفاسد. إما بواسطة واحدة ، أو بوسائط كثيرة. فيثبت بما ذكرنا : أن الحسن والقبح ، لا معنى لهما إلا السعي في جلب المنفعة ودفع المفسدة. ولما حصل الاتفاق على أن ثبوت هذا الداعي في حق الله تعالى محال. كان القول بإثبات الدواعي المبنية على الحسن والقبح محالا في حق الله تعالى. فهذا تقرير الكلام في هذا المقام.
أما المقام الثاني : إنا إذا سلمنا حصول المغايرة بين جلب (١) المنفعة ودفع المضرة ، وبين كون الشيء حسنا أو قبيحا. نقول : قد ذكرنا أن حاصل الكلام في تفسير داعي الحاجة : السعي إلى إيصال الخير والنفع إلى النفس. وتفسير
__________________
(١) [وبين كون الشيء حسنا أو قبيحا. نقول : قد ذكرنا أن حاصل الكلام في تفسير داعي الحاجة السعي إلى] : سقط (س).