سمعته غير مرّة يقول : رأيت قائلا يقول لي : كن تبعا إلّا في ثلاثة : في الزّهد ، والورع ، والجهاد.
وحجّ نحوا من ثلاثين حجّة ماشيا. وبلغني عنه أنّه حجّ في بعضها ، ولم ينم في تلك المدّة حتّى خرج من الحجّ. ثمّ إنّه ترك الحجّ ، وسكن مشهدا قريبا من حرّان ، واشتغل بعمارة رحى هناك. ورتّب الضّيافة لكلّ وارد خبزا ولحما وشهوات.
وكان سبب ذلك كما حكى لي قال : كنت أنا وآخر في الشّام ، فجعنا جوعا شديدا ، ثمّ جئنا إلى قرية ، فصنع لنا إنسان طعاما وقدّمه إلينا ، فجعلنا نأكل وهو حارّ ، فلمّا رأى شرهنا في الأكل مع حرارته قال : أرفقوا فهو لكم. فأعتقد أنّه لو كان لذلك الرجل ذنوب مثل الجبال لغفرت لما صادف من إشباع جوعنا. فرأيت أنّ حجّي ليس فيه منفعة لغيري ، وأنّي لو عملت موضعا يستظل به إنسان كان أفضل من حجّي.
وكان مع ذلك يكره كثرة العلائق ويقول : لو قيل لي في المنام أنّك تصير إلى هذا المال ما صدّقت.
وبنى عند المشهد خانا للسّبيل ، وكان يعمل عامّة نهاره في الحرّ والغبار ، ويقول : لو أن لي من يعمل معي في اللّيل لعملت.
وعمل لنفسه رحى ، وكان يتقوّت منه باليسير ، ويخرج الباقي في البرّ.
دخلت عليه في بيته مرارا وهو يتعشّى ، فما رأيته جالسا في سراج قطّ ، ولا كان تحته حصير جيّد قطّ ولا فراش ، بل حصير عتيق ، تحته قش الرّزّ.
وحضرت يوما معه في مكان ، فلمّا حضر وقت الغداء جلسنا نتغدّى ، وأخرج رغيفا كان معه ، فأكل نصفه ، وناولني باقيه ، وقال : ما بقي يصلح لي ، آكل شيئا ولا أعمل شيئا.
وقال لي : وددت أنّي لآتي مكانا لا أخرج منه حتّى أموت.