من صومعة راهب يقال له «بحيرا» ، فلمّا رأى النبي جعل يلحظه لحظاً شديداً ، وينظر أشياء من جسده ، فجعل يسأله عن نومه وهيئته ، ورسول الله يخبره ، ثمّ نظر إلى ظهره ، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه ، ثمّ قال لأبي طالب : ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود ، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ، ليبغنّه شراً ، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فاسرع به إلى بلاده ، فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام ، وفي ذلك يقول أبو طالب :
انّ ابن آمنة النبي محمداً |
|
عندي يفوق منازل الأولاد |
لما تعلق بالزمام رحمته |
|
والعيس قد قلّصن بالأزواد |
فارفضّ من عيني دمع ذارف |
|
مثل الجمان مفرق الأفراد |
إلى أن قال :
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا |
|
لاقوا على شرك من المرصاد |
حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً |
|
عنه وردّ معاشر الحسّاد |
فما رجعوا حتى رأوا من محمد |
|
أحاديث تجلو غمّ كل فؤاد |
وحتى رأوا أحبار كل مدينة |
|
سجوداً له من عصبة وفراد (١) |
وما رأى أبو طالب من ابن أخيه في هذا السفر من الكرامات وخوارق العادات التي ضبطها التاريخ ، وما سمعه من بحيرا من مستقبل أمره وانّ اليهود له بالمرصاد ، كاف لإرشاد كل إنسان صافي الذهن مستقيم الطريقة ، فكيف بأبي طالب الذي كان بالإضافة إلى هاتين الصفتين ، يحبه حبّاً جماً أشدّ من حبه لأولاده
__________________
(١). السيرة النبوية لابن هشام : ١ / ١٨٢ ؛ الطبقات الكبرى : ١ / ١٢٠ ؛ تاريخ ابن عساكر : ١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٢ ؛ ديوان أبي طالب : ٣٣ ـ ٣٥ ؛ إلى غير ذلك من المصادر التي اهتمت بنقل هذه الواقعة