لعلمه بأن مصلحة المكلف في ذلك الأمر ؛ لاعتقاده لموجبه ، وكف نفسه عما يغويه ، ثم يقطع عنه التكليف في الوقت الذي علم أنه سينسخه عنده لعلمه بما فيه من المصلحة وكف المفسدة ، (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) [الرعد : ٣٩] ويكون ذلك الفعل نفسه بالإضافة إلى وقت متعلق المصلحة والحسن والإرادة ، وبالإضافة إلى غيره متعلق القبح والمفسدة والكراهة ، وذلك كما أمر بالصيام نهارا ونهى عنه ليلا ، ونحو ذلك.
وعلى هذا يندفع ما ذكروه ، من البداء والندم ، فإن ذلك إنما يكون أن لو انكشف له في ثاني الحال ، ما أوجب له المنع عن الفعل ، والنهي عنه ، ولم يكن قد حصل ذلك له أولا ، ومن استعمل من الأصحاب لفظ الرفع في النسخ ، فليس المعنى به غير قطع استمرار ما كان له ، من القوة والاستحكام وأن يبقى لو لا الناسخ ، وذلك على وزن قطع حكم عقد البيع المطلق المستحكم بالنسبة إلى الفسخ ، وهذا ليس برفع لما وجد ولا لما لم يوجد ، ولا معنى للنسخ عند الإطلاق به إلا هذا ، فقد بطل إذا ما تخيلوه ، وفسد ما توهموه.
ولا يتوهمن إضافة قطع الاستمرار إلى الكلام ، الذي هو صفة الرب الكريم ، فإن العدم عليه مستحيل ، بل المراد إنما هو قطع تعلقه بالمكلف ، وكف الخطاب عنه ، وذلك غير مستحيل.
وأما العيسوية فيمتنع عليهم ـ بعد التسليم بصحة رسالته وصدقه في ودعوته ـ إلا الإذعان لكلمته ؛ إذ لا سبيل إلى القول بتخصيص بعثته إلى العرب ، دون غيرها من الأمم ، مع ما اشتهر عنه وعلم بالضرورة والنقل المتواتر من دعوته إلى كلمته طوائف الجبابرة ، وغيرهم من الأكاسرة وتنفيذه إلى أقاصي البلاد ، وملوك العباد ، وقتال من عانده ، ونزال من جاحده ، ثم ذلك معتمد على سند الصدر الأول من المسلمين مع علمنا بأن ذلك الجم الغفير ، والجمع الكثير ، ممن لا يتصور عليهم التواطؤ على الباطل عادة ، لا سيما