في الأولى والأخرى ، وتكون نسبة النبي إلى تعريف هذه الأحوال ، كنسبة الطبيب إلى تعريف خواص الأدوية والعقاقير ، التي يتعلق بها ضرر الأبدان ونفعها ؛ فإن عقول العوام قد لا تستقل بدركها ، وإن عقلتها عند ما ينبه الطبيب عليها ، وكما لا يمكن الاستغناء عن الطبيب في تعريف هذه الأمور مع أنه قد يمكن الوقوف عليها ، والتوصل بطول التجارب إليها لما يفضي إليه من الوقوع في الهلاك والإضرار ؛ لخفاء المسالك ، فكذلك النبي ، وبهذا التحقيق يندفع ما وقعت الإشارة إليه من الشبهة الثالثة أيضا.
فإن قيل : إن تخصيص هذا الشخص بالتعريف دون غيره من نوعه ميل إليه وحيف على غيره ، وهو قبيح قلنا : فعلى هذا يلزم التسوية بين الخلائق في أحوالهم ، وألا تفاوت بين أفعالهم ، بحيث لا يكون هذا عالما وهذا جاهلا ، ولا هذا زمنا وهذا ماشيا ، ولا هذا أعمى وهذا بصيرا ، إلى غير ذلك من أنواع التفاوت في الكمالات ، وحصول الملاذ والشهوات ، وإلا عد ذلك منه قبيحا ، وهو محال ، لكنه واقع ، فإذا ما هو الاعتذار هاهنا للخصم هو الاعتذار بعينه لنا في محز الخلاف ، وأما ما ذكروه من تعذر الوقوف بالعقول على صدق الرسول فتصريح بتعجيز الله تعالى عن تصديق من اصطفاه ونبأه ، واتخذه وسيلة إلى إصلاح نظام الخلق بالإرشاد إلى السبيل الحق (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف : ٥] ، بل من له الخلق والأمر ، وله التصرف في عباده بالبذل والمنع ، والشطر والجمع ، كما كان قادرا على تعريف الخلائق بنفس ربوبيته ، والتصديق بإلهيته ، قادر على أن يعرفهم صدق من اصطفاه واجتباه لحمل أمانته ، إما بأن يخلق لهم علما ضروريا بذلك ، أو بالإخبار عن كونه رسولا ، كما قال تعالى في حق آدم للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، ولا يلزم من تصور الخطاب من المرسل الاستغناء عن الرسول ؛ فإن ذلك حجر وتحكم على الحاكم في مملكته وهو خلاف المعقول ، بل لله تعالى أن يصطفى من عباده : (اللهُ