يراه النبي من اختلاف صور الملك ؛ لتبدل حقيقته أو لتبدل صورته وشكله ، بل الذي يظهر أنها أنوار روحانية ، وجواهر عقلية ، تظهر في الخيال على اختلاف تلك الأشكال ، ويكون تعلقها به في ضرب المثال على نحو تعلق الأنفس الناطقة بالأبدان ، فإذا اشتد صفاء نفسه ، بحيث صارت متصلة بعالم الغيب ، انطبعت تلك الأشكال في القوة الخيالية ، وارتقمت فيها تلك الكمالات اللاهوتية ، ثم انطبع ما حصل في الخيال من الإدراكات الظاهرة ، في الحواس الباطنة ، فإذا ذاك يرى من الأشخاص والصور ، ويسمع من الأصوات ما تتقاصر عن الإحاطة به قوى البشر ، فما يراه من الصور هي ملائكة الله ، وما يسمعه من الكلام هو كلام الله ووحيه الموحى به إليه.
وأقرب مثال يقربه إلى الذهن ، ويصوره في الوهم ما نشاهده في بعض الناس ؛ فإنه قد يقل شواغله البدنية ، وينصرف عن اشتغاله بمتعلقات حواسه الظاهرة ؛ بسبب يبوسة تغلب على مزاجه ، أو لأمر ما بحيث يصير كالمبهوت وحينئذ قد يرى من الصور ويسمع من الأصوات حسب ما يراه النائم في منامه ، وإن كان مستيقظا ، بل ومثل هذا قد وجد لبعض المرضى والمصروعين ، وبعض المتكهنين ، والمقصود من هذا إنما هو التقريب بالمثال وإلا فهذه صفة نقص ، والأولى صفة تمام وكمال.
وما أشير إليه من الشبهة الثانية فمندفعة ؛ وذلك أنه لا مانع من أن يرد النبي بما هو في نفسه معقول ، ويكون تحذيره وترغيبه تأكيدا ، ويكون ذلك بمثابة إقامة أدلة متعددة.
والمدلول واحد ، وهو لا يسمى عبثا. كيف وإنا قد بينا أن العبث والقبح منفي عن واجب الوجود في جميع أفعاله.
ثم نقول : إن الرسول لا يأتي إلا بما لا تستقل به العقول ، بل هي متوقفة فيه على المنقول ؛ وذلك كما مسالك العبادات ، ومناهج الديانات ، والخفي مما يضر وينفع من الأقوال والأفعال ، وغير ذلك مما تتعلق به السعادة والشقاوة