أما الفلاسفة الإلهيون :
فالخواص منهم متفقون على امتناع وجود الأنفس قبل الأبدان ، وأنه لا وجود لها إلا عند وجود الأبدان ، وسلكوا في ذلك طريقا شددوا به النكير على من قال منهم بقدمها ، قالوا : لو فرض قدم النفس على البدن لم يخل : إما أن تكون متكثرة أو متحدة : لا جائز أن تكون متكثرة ؛ إذ التكثر من غير مميز حال ، وكل ما يفرض من الفواصل والمميزات قبل وجود الأبدان محال. ولا جائز أن تكون متحدة ، وإلا فعند بدء الأبدان ووجودها بالفعل إما أن تبقى متحدة أو تتكثر : لا جائز أن يقال بأنها تبقى متحدة ، وإلا فنسبتها إلى بدن واحد أو كل الأبدان؟ لا جائز أن تكون نسبتها إلى بدن واحد ، دون غيره
__________________
ـ تجتمع في أجساد الموتى ، وتتضاعف من غير حس بها فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة. وذهب ضرار بن عمرو ، وبشر المريسي ، وأكثر المتأخرين من المعتزلة إلى إنكار ذلك كله. وأنكر الجبائي ، وابنه ، والبلخي تسمية الملكين : منكرا ، ونكيرا ؛ مع الاعتراف بهما وإنما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل ، والنكير : تقريع الملكين له. والدليل على إحياء الموتى في قبورهم قبل الإحياء للحشر قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١] والمراد بالإماتتين : الموتة التي قبل مزار القبور ، والموتة التي بعد مساءلة منكر ونكير ، والمراد بالحياتين : الحياة الأولى ، والحياة لأجل المساءلة على ما قاله المفسرون. فإن قيل : لا نسلم أن المراد بالإماتتين ، والحياتين ما ذكرتموه ، وما ذكرتموه عن المفسرين : فهو معارض بما يناقضه من قول غيرهم من المفسرين أيضا : فإنه قد قيل إن المراد بالإماتتين : الموتة الأولى ، في أطوار النطفة قبل نفخ الروح فيها ، والثانية : التي قبل مزار القبور ، والمراد بالحياتين : التي قبل مزار القبور ، والحياة لأجل الحشر. وليس أحد القولين أولى من الآخر ؛ بل هذا القول أولى ؛ لأنه لو كان كذلك فيكون على وفق المفهوم من قوله ـ تعالى ـ : (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) حيث إنه يدل بمفهومه على نفي حياة ثالثة ، وما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الإحياء ثلاث مرات : الإحياء الأول : الذي قبل مزار القبور ، والإحياء للمسائلة ، والإحياء للحشر ، وهو خلاف المفهوم من الآية.