يفطن لهم فقراء البلد ومساكينها وأجمعوا (١) على (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) كما كانوا يدخلونها ويأخذون منها أيام حياة والدهم رحمة الله عليه قال تعالى (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وانطلقوا صباحا على حرد أي (٢) قصد تام قادرين على أن لا يدخلنها اليوم عليهم مسكين بل يجدونها ويحملونها إلى مخازنهم ولا يشعر بهم أحد من الفقراء والمساكين. قال تعالى (فَلَمَّا رَأَوْها) محترقة سوداء مظلمة (قالُوا) ما هذه جنتنا (إِنَّا لَضَالُّونَ) (٣) عنها بأن أخطئنا الطريق إليها ، ولما علموا أنها هي ولكن احترقت ليلا اضربوا عن قولهم الأول وقالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي منها لعزمنا على منع المساكين منها وقد كان والدنا يمنحهم منها ويعطيهم شكرا لله وأداء لحقه. وهنا تكلم أوسطهم أي خيرهم تقوى وأرجحهم عقلا بما أخبر تعالى عنه في قوله (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ) (٤) (أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي ألم يسبق لي أن قلت لكم لما قلتم لنصرمنها مصبحين ولم تستثنوا فقلت لكم هلا تستثنون واطلق لفظ التسبيح على الاستثناء لأن التسبيح تنزيه لله عن الشرك وسائر النقائص ومنها العجز والاستثناء تنزيه لله عن ذلك لأن الذي يقول أفعل ولم يستثن اعطى لنفسه قدرة كقدرة الله الذي إذا قال أفعل فعل ولا يعجز فهو هنا اشرك نفسه في صفة من صفات الله تعالى فلذا كان الاستثناء تسبيحا لله وتنزيها له عن المشارك في صفاته وأفعاله. فلما ذكرهم أخوهم العاقل الرشيد قالوا (سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فنابوا بهذا الاعتراف قال تعالى (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم بعضهم بعضا على خطأهم في عزمهم على حرمان المساكين وعلى عدم الاستثناء في اليمين قالوا من جملة ما قالوا (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا احضر (إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي متجاوزين حدود الله التي حد لنا غفلة منا وجهلا بأنفسنا وبما يعاقب به امثالنا. وهنا بعد أن رجعوا على أنفسهم باللوم وإلى الله بالتوبة رجوا ربهم ولم ييأسوا من رحمته فقالوا (عَسى (٥) رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا (٦) خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) هكذا ابتلوا بالنعمة ثم بسلبها فتابوا
__________________
(١) في الآية دليل على أن العزم الأكيد يؤاخذ عليه العبد لأن أصحاب الجنة عزموا على أن يحرموا الفقراء فعاقبهم الله على عزمهم.
(٢) الحرد : يطلق على المنع وعلى القصد القوي وعلى السرعة والغضب أيضا وجملة وغدوا ... إلخ حالية.
(٣) لا داعي إلى تفسير لضالون بالضلال الذي هو الخروج عن طاعة الله بل المراد من الضلال هو عدم اهتدائهم إلى جنتهم بأن ضلوا طريقها.
(٤) الاستفهام تقريري ، ولو لا للتحضيض.
(٥) قيل إنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما يصنع أبونا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله ما هو خير منها ، سئل قتادة عن أصحاب الجنة : أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال للسائل لقد كلفتنى تعبا!
(٦) قرأ نافع أن يبدلنا بتشديد الدال ، وقرأ حفص بالتخفيف من أبدل يبدل الرباعي.