حجب العزة وأستار القدرة : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥]. قالوا : فهل لنا إلى مشاهدتهم سبيل؟ قيل : لا ، فإنكم في حجاب العزة وأستار البشرية ، وأسر الأجل وقيده ، فإذا قضيتم أوطاركم وفارقتم أوكاركم ، فعند ذلك تزاورتم وتلاقيتم ، قالوا : والذين قعد بهم اللؤم والعجز فلم يخرجوا؟ قيل : هيهات (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة : ٤٦]. ولو أردناهم لدعوناهم ولكن كرهناهم فطردناهم. أنتم بأنفسكم جئتم أم نحن دعوناكم؟ أنتم اشتقتم أم نحن شوّقناكم؟ نحن أقلقناكم فحملناكم وحملناهم في البر والبحر ، فلما سمعوا ذلك واستأنسوا بكمال العناية وضمان الكفاية كمل اهتزازهم وتم وثوقهم فاطمأنوا واستقبلوا حقائق اليقين بدقائق التمكين ، وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين ، ولتعلمن نبأه بعد حين.
فصل
أترى هل كان بين الراجع إلى تلك الجزيرة وبين المبتدئ من فرق؟ إنما قال : جئنا ملكنا من كان مبتدئا ، أما من كان راجعا إلى عيشه الأصلي (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي) [الفجر : ٢٧ و ٢٨]. فرجع لسماع النداء كيف يقال له لم جئت؟ فيقول : لم دعيت لا بل فيقول لم حملت إلى تلك البلاد وهي بلاد القربة ، والجواب على قدر السؤال ، والسؤال على قدر التفقّه ، والهموم بقدر الهمم.
فصل
من يرتاع لمثل هذه النكت فليجدد العهد بطور الطيرية ، وأريحية الروحانية ، فكلام الطيور لا يفهمه إلا من هو من الطيور ، وتجديد العهد بملازمة الوضوء ، ومراقبة أوقات الصلاة ، وخلوة ساعة للذكر فهو تجديد العهد الحلو في غفلة لا بدّ من أحد الطريقين ، فاذكروني أذكركم ، أو نسوا الله فنسيهم. فمن سلك سبيل الذكر أنا جليس من ذكرني ، ومن سلك النسيان : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦]. وابن آدم في كل نفس مصحح أحد هاتين النسبتين ولا بد يتلوه يوم القيامة أحد السيماءين. أما يعرف المجرمون بسيماهم أو الصالحون بسيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أنقذك الله بالتوفيق ، وهداك إلى التحقيق ، وطوى لك الطريق ، إنه بذلك حقيق. والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين آمين.