ثمّ تنثال عليّ السّؤالات ، فأسأله فيجيبني للوقت ، ثمّ يمضي فيعملها كتبا (١).
وكان يقول لي : كم تقول عزلتي أنسي ، لو أنّ نصف الخلق تقرّبوا منّي ما وجدت بهم أنسا ، ولو أنّ النّصف الآخر نأى عنّي ما استوحشت لبعدهم (٢).
واجتاز بي الحارث يوما ، وكان كثير الضّرّ ، فرأيت على وجهه زيادة الضّرّ من الجوع. فقلت : يا عمّ ، لو دخلت إلينا؟
قال : أو تفعل؟
قلت : نعم ، وتسرّني بذلك.
فدخلت بين يديه ، وعمدت إلى بيت عمّي ، وكان لا يخلو من أطعمة فاخرة ، فجئت بأنواع من الطّعام ، فأخذ لقمة ، فرأيته يلوكها ولا يزدردها. فوثب وخرج وما كلّمني. فلمّا كان من الغد لقيته فقلت : يا عمّ ، سررتني ، ثمّ نغّصت عليّ. قال : يا بنيّ أمّا الفاقة فكانت شديدة ، وقد اجتهدت أن أنال من الطّعام ، ولكن بيني وبين الله علامة ، إذا لم يكن الطّعام رضيّا ارتفع إلى أنفي منه زفرة (٣) ، فلم تقبله نفسي ، فقد رميت بتلك اللّقمة في دهليزكم (٤).
وقال ابن مسروق : قال حارث المحاسبيّ : لكلّ شيء جوهر ، وجوهر الإنسان العقل ، وجوهر العقل التّوفيق (٥).
قال : وسمعت الحارث يقول : ثلاثة أشياء عزيزة : حسن الوجه مع الصّيانة ، وحسن الخلق مع الدّيانة ، وحسن الإخاء مع الأمانة (٦).
__________________
(١) تهذيب الكمال ٥ / ٢١٠.
(٢) حلية الأولياء ١٠ / ٧٤ ، تاريخ بغداد ٨ / ٢١٣ ، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٢ / ٣٧ ، ٣٨ ، تهذيب الكمال ٥ / ٢١٠ ، صفوة الصفوة ٢ / ٣٦٨.
(٣) في تهذيب الكمال ٥ / ٢١١ : «زفورة».
(٤) حلية الأولياء ١٠ / ٧٤ ، ٧٥ ، طبقات الشافعية الكبرى ٢ / ٣٨ ، صفة الصفوة ٢ / ٣٦٨.
(٥) تاريخ بغداد ٨ / ٢١٣ ، تهذيب الكمال ٥ / ٢١١ ، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٢ / ٤١ وفيه :
«الوجوه العقل الصبر والعمل بحركات القلوب في مطالعات الغيوب أشرف من العمل بحركات الجوارح» ، وفي وفيات الأعيان ٢ / ٥٨ : «وحسن القول مع الأمانة ، وحسن الإخاء الوفاء» ، واللمع للطوسي ٢٤٦ ، وانظر : طبقات الصوفية للسلمي ٥٩ رقم ١٤.
(٦) حلية الأولياء ١٠ / ٧٥ ، تاريخ بغداد ٨ / ٢١٢ ، تهذيب الكمال ٥ / ٢١٢ ، صفة الصفوة ٢ / ٣٦٧ ، =