لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (١٦)
من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب ، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل ، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوسلم شبابا ، وأما المشايخ من قريش ، فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا ، وقال مجاهد : بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق ، فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم ، فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية ، وشهدوا أنه لا إله إلا هو (وَزِدْناهُمْ هُدىً) استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص ، ولهذا قال تعالى : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) كما قال : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] وقال (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة: ١٢٤] وقال : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤٠] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم ، فالله أعلم ، والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية ، فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم ، وقد تقدم عن ابن عباس أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء ، وعن خبر ذي القرنين ، وعن الروح ، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب وأنه متقدم على دين النصرانية ، والله أعلم.
وقوله (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس ،. وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه ، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم ، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا الله الذي خلق السموات والأرض ، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية.
فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة فجاء الآخر فجلس إليها عنده ، وجاء الآخر فجلس إليهما ، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر وجاء الآخر ،