أمروهم به ، فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أخبركم غدا عما سألتم عنه» ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلىاللهعليهوسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبرائيل عليهالسلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها ، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبرائيل عليهالسلام من الله عزوجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله عزوجل (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ) الآية.
(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨)
يقول تعالى مسليا لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه كما قال تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر ٨] وقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النحل : ١٢٧] وقال : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣].
باخع أي مهلك نفسك بحزنك عليهم ، ولهذا قال : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن (أَسَفاً) يقول : لا تهلك نفسك أسفا. قال قتادة : قاتل نفسك غضبا وحزنا عليهم ، وقال مجاهد : جزعا (١) ، والمعنى متقارب ، أي لا تأسف عليهم ، بل أبلغهم رسالة الله ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية مزينة بزينة زائلة ، وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
قال قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (٢) ، ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها ، فقال تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار ، فنجعل كل شيء عليها هالكا صعيدا جرزا لا ينبت ولا ينتفع به.
كما قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) يقول : يهلك كل شيء عليها ويبيد. وقال مجاهد : صعيدا جرزا بلقعا ، وقال قتادة : الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات ، وقال ابن زيد : الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا
__________________
(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٧٧.
(٢) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٩٩ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٢.