فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ، ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية ، وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه ، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر (١) ، وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة ، أربعتهم عن مالك به (٢) ،
قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين ، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية ، لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمن عن زبيد اليامي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر رضي الله عنه ، قال : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر ، على لسان محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهكذا رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به ، وهذا إسناد على شرط مسلم.
وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر ، وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره ، وهو الصواب إن شاء الله ، وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي قد قالوا ، إنه لم يسمع منه ، وعلى هذا أيضا فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي من طريق الثوري عن زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الثقة ، عن عمر ، فذكره ، وعند ابن ماجة من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عن زبيد ، عن عبد الرحمن ، عن كعب بن عجرة ، عن عمر ، فالله أعلم. وقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ، زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائد ، كلاهما عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس ، قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلىاللهعليهوسلم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر. ورواه ابن ماجة من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه ، فهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها ، لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر ، فلما استقر ذلك ، صح أن
__________________
(١) موطأ مالك (قصر الصلاة في السفر حديث ٨)
(٢) صحيح البخاري (صلاة باب ١) وصحيح مسلم (مسافرين حديث ١ و ٣) وسنن أبي داود (سفر باب ١) وسنن النسائي (صلاة باب ٣)
(٣) مسند أحمد ١ / ٣٧.