وقوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي أخبركم بما أكل أحدكم الآن ، وما هو مدخر له في بيته لغد ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في ذلك كله (لَآيَةً لَكُمْ) أي على صدقي فيما جئتكم به (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي مقررا لها ومثبتا (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) فيه دلالة على أن عيسى عليهالسلام نسخ بعض شريعة التوراة ، وهو الصحيح من القولين ، ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ ، فكشف لهم عن المغطى في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [الزخرف : ٦٣] والله أعلم. ثم قال (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤)
يقول تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى) أي استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال ، (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) قال مجاهد : أي من يتبعني إلى الله. وقال سفيان الثوري وغيره : أي من أنصاري مع الله ، وقول مجاهد أقرب. والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله؟ كما كان النبي صلىاللهعليهوسلم يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر «من رجل يؤويني حتى أبلغ كلام ربي. فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي» حتى وجد الأنصار ، فآووه ونصروه وهاجر إليهم ، فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر ، رضي الله عنهم وأرضاهم. وهكذا عيسى ابن مريم عليهالسلام انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به ووازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ، ولهذا قال الله تعالى مخبرا عنهم (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الحواريون قيل : كانوا قصارين ، وقيل : سموا بذلك لبياض ثيابهم ، وقيل : صيادين. والصحيح أن الحواري الناصر ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب ، فانتدب الزبير ثم ندبهم ، فانتدب الزبير رضي الله عنه ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لكل نبي حواري ، وحواريي الزبير» (١) ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) قال : مع أمة محمدصلىاللهعليهوسلم ، وهذا إسناد جيد.
__________________
(١) صحيح البخاري (جهاد باب ٤٠ و ٤١ و ١٣٥ ؛ وفضائل الصحابة باب ١٣) وصحيح مسلم (فضائل الصحابة حديث ٤٨)