ويزعمون أن الإلهيات إنما يتوصل إليها بتهذيب القريحة ، والرياضيات التي هي خواص الأعداد والهندسة والطبائع وعلم الألحان. ومن تهذب بها قبل الإلهيات من غير حجاج.
ومن عجيب أمرهم ، أنهم يزرون على قواطع المتكلمين ، ويزعمون أنها مغالطات وأحسن رتبها الجدليات ، وليس منها الأقيسة البرهانية ؛ ثم يجتزون فيما هو المقصود بقبول الطبع له من غير حجاج ، مع أنه عندهم من أخفى الخفيات. فيقال لهم : هلا اكتفيتم بالموجود الأول في إيجاب كل ما عداه؟ وما الذي دلكم على إيجاب الروحاني الأول ثم إيجاب الروحاني ما دونه؟ وهل هذا إلا تحكم محض لا محصول له؟ ولا يحتمل هذا المعتقد أكثر من ذلك.
وأما ما سموه طبائع فيما دون فلك القمر ، فلا محصول له ، فإنهم عنوا بكل ما أشاروا إليه اجتماع العناصر على أقدار ؛ فإن عنوا باجتماعها يداخلها فذلك محال ، لأن المتحيز لا يقوم بحيث متحيز. ولو جاز قيام متحيز بحيث متحيز لجاز رجوع العالم إلى حيز خردلة ، من غير تقدير عدم شيء منها ، وهذا معلوم بطلانه على الضرورة ، ولو تداخلت العناصر اجتمعت في الحيز الواحد الحرارة التي هي صورة النار ، والرطوبة التي هي صورة الهواء ، والبرودة التي هي صورة الماء ، واليبوسة التي هي صورة الأرض ، وذلك معلوم بطلانه بضرورة العقل. فإن زعموا أن العناصر تتجاوز ، وكل عنصر مختص بحيزه منفرد بصورته ؛ فينبغي أن تبقى بسائط على صورها في مراكزها ، والعناصر متحيزة فإنها شواغل أحياز ذوات أشكال ، وهي أجزاء هيولانية على صور. فاكتفوا بذلك في هذا المعتقد.
فصل
لما رأينا هذا الفصل متعلقا بأحكام الإرادة ، وخلق الأعمال ، ومتعلقات القدر ، رأينا تقديم هذه الأصول. وقد حان أن نذكر مذهب أهل الحق في إرادة الكائنات ، والرد على مخالفيهم.
فمذهبنا أن كل حادث مراد الله تعالى حدوثه ، ولا يختص تعلق مشيئة الباري بصنف من الحوادث دون صنف ، بل هو تعالى مريد لوقوع جميع الحوادث : خيرها وشرها ، نفعها وضرها.
ومن أئمتنا من يطلق ذلك عاما ، ولا يطلقه تفصيلا. وإذا سئل عن كون الكفر مرادا لله تعالى ، لم يخصص في الجواب ذكر تعلق الإرادة به ، وإن كان يعتقده ، ولكنه يجتنب إطلاقه لما فيه من إيهام الزلل ، إذ قد يتوهم كثير من الناس أن ما يريده الله تعالى يأمر به ويحرض عليه ؛ ورب لفظ يطلق عاما ولا يفصل. فإنك تقول : العالم بما فيه لله تعالى ؛ وإن فرض سؤال في ولد أو زوجة ، لم تقل الزوجة والولد لله تعالى ؛ ومن حقق من أئمتنا ، أضاف تعلق الإرادة إلى كل حادث : معمما ومخصصا ، مجملا ومفصلا.
ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه ، ومنع إطلاقه ، المحبة والرضا فإذا قال القائل : هل يحب الله تعالى كفر الكفار ويرضاه؟ فمن أئمتنا من لا يطلق ذلك ويأباه. ثم هؤلاء تحزبوا حزبين :