وكل ما دللنا به على تفرد الباري سبحانه بخلق كل حادث ، فهو جار في هذا الفصل ردا على من يزعم المتولدات مخترعة لفاعل الأسباب.
فإن قالوا : وجدنا المسببات واقعة على حسب القصود والدواعي ومبالغ الأسباب ، كما أن المقدورات المباشرة بالقدرة القائمة بمحالها تقع على حسب الدواعي والقصود ؛ فهذا الذي ذكروه مما نقضناه في خلق الأعمال ، وأوضحنا بطلان التعويل عليه.
ثم إن ما ذكروه يبطل بما يساعدوننا على كونه غير متولد ، كالشبع والري والسقم والبرء والموت عند معظم المعتزلة ، والحرارة عند احتكاك جسم بجسم مع تحامل واعتماد ، وسقط الزناد عند الاقتداح ، وفهم المخاطب وخجله ووجله عند الأفهام والتخجيل والتخويف ؛ فكل ذلك ، وما جرى مجراه ، غير متولد عند الخصوم. وإن كان ما طردوه عند الوقوع على حسب القصود ، مطردا فيها. فإن قالوا : ما استشهدتم به يختلف الأمر فيه ، ولا يطرد على وتيرة واحدة ، قلنا : فكذلك سبيل الرمي والجرح ورفع الثقيل وشيله وكل ما يتنازع فيه.
فصل
ذهبت الفلاسفة إلى أن الكون والفساد ، المعبر بهما عن تركيب العناصر الأربعة وانحلالها بعد التركيب ، من آثار الطبائع والقوى ؛ وما يجري في العالم المنحط عن فلك القمر ومداره ، من الاستحالات الضرورية ، فكلها آثار طبيعية ؛ وما يجري به في العالم العلوي العري عن النار والهواء والماء والأرض ، فهو من آثار نفوس الأفلاك وعقولها ، ثم تلك الآثار مستندة عندهم إلى الروحاني الأول ، وهو يستند إلى الموجود الأول ، وهو الباري على زعمهم ، وهو سبب الأسباب وموجبها.
وليس من مقتضى أصلهم أن الموجود الأول يخترع شيئا على اختيار في إيقاعه ، بل هو موجب للروحاني الأول ، ثم الروحاني الأول موجب للفلك ونفسه وعقله ؛ وكذلك القول في الفلك الأعلى مع الذي يليه إلى الانتهاء إلى فلك القمر ، والآثار العلوية متناسبة لا اختلاف فيها ولا يعتورها قبول اختلاف الأشكال ، والشمس لا يتصور تقديرها على هيئة أخرى غير الهيئة التي هي عليها ؛ وإنما يتعرض لقبول الأشكال المختلفة ، هيولى عالم الكون والفساد ويعبرون في هذه المواضع بالهيولى عن الجواهر ، ويعبرون عن أعراضها بالصورة.
ثم حقيقة أصلهم أن العالم العلوي ، وعالم الكون والفساد ، لا مفتتح لهما ، وهما مع الموجود الأول كالمعلول مع العلة. والأولى أن نقيم الدلالة القاطعة على حدث العالم ، وكل متعرض لاعتوار الأكوان عليه ، وفي إثبات ذلك نقض أصلهم.
ثم كل ما ذكروه تحكم لا محصول له. ولا يزال لهم في هذه المواقف ، التي يسمونها الإلهيات ، اصطبار على اعتبار النظار وامتحانهم إياهم بمسالك الحجاج. وهم يعترفون بذلك ،