وأما من نفى جواز الرؤية ، فمما يعوّلون عليه أن الباري تعالى لو كان مرئيا لرأيناه في وقتنا ؛ إذ الموانع من الرؤية منفية عنه ، وهي القرب والبعد المفرطان ، والحجب الحائلة ونحوها ، فلما لم نره كان ذلك دالّا على أنا لم نره لاستحالة رؤيته.
فنقول لهم : لم حصرتم الموانع فيما ذكرتموه؟ ولم أنكرتم مزيدا عليها؟ فلا يرجعون عند تحقيق الطلبة إلا إلى قولهم : سبرنا الموانع فلم نلف إلا ما أفصحنا به. فيقال لهم : عدم عثوركم على ضبط الموانع ، لا ينتصب علما قاطعا ، وأنتم عرضة للزلل ، ولا يجب لكم العصمة ، ولا الإحاطة بقصارى الأشياء وحقائقها ، فلا يرجعون عند ذلك إلا إلى تردّد وتبلّد.
ثم نقول لهم : بم تنكرون على من يزعم أنا إنما لم نره لمانع قائم بالحاسة ، مضادّ لإدراكه؟ فإن قالوا : مقاد هذا المذهب يفضي بمعتقده إلى أن يجوّز أن تكون بحضرته أطلال وأشخاص وأشباح ، وأطوال شامخة وجبال راسخة ؛ وهو لا يراها ، إذ لم يخلق له الإدراك لها ، والتزام ذلك جهل وانسلال عن موجب العقل.
قلنا : هذا الذي ذكرتموه تعويل على تهويل لا تحصيل له ، وهو على الفور ينعكس عليكم بالذي يغمض أجفانه ، ويعتقد اقتدار الرب تعالى على أن يخلق في أوجز ما يقدر وأسرع ما ينتظر ما فرضتموه علينا ؛ فما يؤمنه ، وقد غمّض أو أطرق ، أن يكون قد حدث بين يديه باختراع الله أطواد وأطلال؟ ومجوّز ذلك متجاهل.
وكذلك اتفق المنتمون إلى الإسلام على اقتدار الرب على أن يخلق بشرا سويا بديّا ، من غير أن يردّده في أطوار الخلق من النطف والأمشاج. ومن رأى بشرا سويا ، واستراب في كونه مولودا جريا على ما يجوّزه في قدرة الله تعالى كان والجا في نية الجهل.
ومن الممكنات أن تجري الأودية دما عبيطا ، وتنقلب الجبال ذهبا إبريزا ، ولو جوّزه عاقل في دهره وقدره ممكنا في عصره ، كان مهوّسا موسوسا ، فكذلك سبيل القطع بأنه ليس بحضرتنا ما لا نشاهده.
فرجع ذلك ، وقيتم البدع ، إلى استقرار العوائد واستمرارها دون موجبات العقول. كيف وقد خصص الرسل برؤية الملائكة على القرب من صحبهم وكانوا لا يرونهم ، إذ الدهر دهر انخراق العوائد ووضوح المعجزات المجانبة للعادات.
ومن شبههم : ما إذا تحقق رجع إلى محض الدعوى ، مثل قولهم : الرائي يجب أن يكون مقابلا للمرئي ، أو في حكم المقابل. فيقال لهم في هذا الضرب : أعلمتم ما ادّعيتموه ضرورة ، أم علمتموه نظرا؟ فإن ادّعوا العلم الضروري ونسبوا خصومهم إلى جحده ، سقطت محاجتهم وتبين بهتهم وتطرق إليهم من المجسمة مثل ما ادّعوه.