غير الشفافة من الموانع على أصولهم. وحملوا العمى على انتقاض بنية الحاسة. وكل ما يدل على إثبات الأعراض دال على أن العمى ، وكل مانع من الإدراك معنى ؛ ولو جاز حمل العمى على انتقاض البنية.
ومن أحاط بمآخذ الأدلة ، هان عليه طرد الدليل الذي رمناه ، وإن ابتغى مبتغ تجديد العهد بسبيل الدليل على ما نروم إثباته من الأعراض ، فليسرد ما رسمناه في إثبات الأعراض حرفا حرفا. فهذه المقدمات لم نجد من تقديمها بدّا.
فصل
ذكرنا من مذهب أهل الحق أن الباري سبحانه يجوز أن يرى ، ونقلنا مخالفة المخالفين. ثم معظم المعتزلة مجمعون على أن الباري تعالى لا يرى نفسه ، وهو في معتقد هؤلاء يستحيل أن يرى بالحواس ويستحيل أن يرى من غير حاسة. وذهبت شرذمة من المعتزلة إلى أن الباري يرى نفسه ، وإنما تمتنع على المحدثين رؤيته من حيث لا يرون إلا بالحاسة واتصال الأشعة. وذهب الكعبي وصحبه إلى أنه تعالى لا يرى ، ولا يرى نفسه ولا غيره ، وهذا مذهب النجار.
والذي يعول عليه في إثبات جواز الرؤية بمدارك العقول ، أن نقول : قد أدركنا شاهدا مختلفات ، وهي الجواهر والألوان ، وحقيقة الوجود تشترك فيها المختلفات ، وإنما يؤول اختلافها إلى أحوالها وصفات أنفسها ، والرؤية لا تتعلق بالأحوال. فإن كل ما يرى ويميز عن غيره في حكم الإدراك ، فهو ذات على الحقيقة ، والأحوال ليست بذوات. فإذا تقرر بضرورة العقل أن الإدراك لا يتعلق إلا بالوجود ، وحقيقة الوجود لا تختلف ، فإذا رئى موجود لزم تجويز رؤية كل موجود ؛ كما أنه إذا رئي جوهر ، لزم تجويز رؤية كل جوهر ؛ وهذا قاطع في إثبات ما نبغيه.
فإن قيل : لو كانت الرؤية لا تتعلق إلا بالموجود ، لما أدرك المدرك اختلاف المدركات ، وهذا السؤال وجّهه البهشمية ؛ فإن من أصلهم : أن الإدراك لا يتعلق بالوجود ، وإنما يتعلق بخاصّ وصف المدرك.
والذي ذكروه في نهاية من التناقض ؛ فإن ابن الجبائي امتنع من وصف الحال بكونها معلومة على حيالها ، محاذرة من أن تتخيل الحال ذاتا ، ثم زعم أنها المدركة دون الذات ووجودها. وكيف يستحيز اللبيب أن يحكم بأنه يدرك ما لا يعلم ، مع القطع بأن تعلق العلم أعم من تعلق الإدراك ؛ فإن العلم يتعلق بالوجود والعدم ؛ والإدراك لا يتعلق إلا بالذات الموصوفة بالوجود.
فإن قالوا : فما بال الحال علمت عند إدراك الوجود؟ قلنا : قولنا في العلم بالأحوال عند إدراك الوجود ، كقولهم في العلم بالوجود عند إدراك الأحوال. ثم لا يبعد في مجاري العقول وجود اقتران معنيين ، وهو بمثابة اقتران الآلام بالعلم بها ، والمحل بالعرض ، إلى غير ذلك.