وقدرنا تسليمه
جدلا ، قلنا لهم بعده : قد أوجبتم بعد التكليف الأصلح في الدين ، فهلا أوجبتم
الأصلح في أمر الدنيا! وأيّ فصل بينهما بعد الاختراع وخلق الملاذ والشهوات؟
ونطرد عليهم شبهة
للبغداديين يصعب عليهم موقعها ، فنقول : مآخذكم العقول ، والرجوع إلى الشاهد.
ومعلوم أن من كان يملك بحارا لا تنزف وأودية خرارة غزيرة لا تنقطع ، ولا حاجة به
إليها ؛ وبمرأى منه إنسان يلهث عطشا ، وجرعة ترويه ، فلا يحسن أن يحال بينه وبين
ما يسد رمقه ، ويقبح أن يجلي عن مشرع الماء ، وإن لم يقبح ذلك فلا قبيح في العقل.
والغرض من مساق
هذا الكلام أن الأصلح في الدنيا بالإضافة إلى مقدور الله تعالى ، أقل من غرفة ماء
بالإضافة إلى البحار ، فإنها متناهية ومقدورات الله تعالى لا تتناهى ، والواحد منا
لا يتضرر بالبذل ، وإن قلّ وغمض مدرك ما يخصه من الضرر ، والرب تعالى منزه عن قبول
الضرر.
وهذا يلزم
المعتزلة إذا حسّنوا بالعقول وقبحوا ، وإن ألزمنا ما قالوه نقضناه على الفور بعقاب
أهل النار ، وقلنا : إذا أساء العبد شاهدا حسن العفو عنه في مكارم الأخلاق ، مع
تعريض السيد لضرر المغايظ عند ترك الانتقام والتشفي ، فما بال العصاة مخلدون في
الأنكال والأغلال ، وقد ندموا على ما قدموا ، والرب تعالى أرحم الراحمين؟
ومما يخص به
البصريون فيه إيضاح باب يمكن إفراده. وهو أن نقول : قد أوجبتم بعد التكليف الأصلح
في الدين ، وحسّنتم التكليف لتعريضه المكلف للثواب الدائم ، فإذا علم الرب تعالى
أنه لو اخترم عبده قبل أن يناهز حلمه لكان ناجيا ، ولو أمهله وأرخى طوله ، وأقدره
، وسهل له النظر ويسره لعند وجحد ، فكيف يستقيم أن يقال أراد الرب الخير لمن علم
ذلك منه؟ أم كيف يستجيز لبيب أن يقال الأصلح تكليفه ، ولو اخترم لكان قد فاز؟ وعند
ذلك تحق الحقائق ، وتضغطهم المضايق.
وها نحن نوضح الحق
في هذا المجال بضرب مثال ، فنقول : إذا علم الأب الشفيق أن ولده لو أمدّه بالأموال
لطغى وآثر الفساد وتنكب الرشاد ، ولو أقتر عليه لصلح ؛ فلو أراد استصلاح ولده ،
فأمده بالمال ، مع علمه بأنه يطغيه أو يرديه ، فباضطرار نعلم أن التقتير أصلح له
من السعة. ولو قال الوالد ، وقد أمد ولده ، وهيأ له عدده ، وأحسن صفده : إنما قصدت
أن أقيم أوده ، مع علمي بخلاف ذلك ، فلا خفاء بخروجه عن موجب العقل.
فإن قالوا : إنما
لا يكون الأب ناظرا له ، لأنه لا يحيط بمبلغ ما يعرضه له من الخير لو رشد في المآل
، والرب تعالى عالم بمبلغ ما يستوجبه المكلف من الثواب لو آمن. وهذا تلاعب بالدين
؛ فإن العلم بمبلغ الثواب لا حكم له مع العلم بأنه لا يناله ، فما يغني العبد علم
الرب بمبلغ ثواب لا يناله. والذي يوضح الحق في ذلك ، أنه يحسن من النبي عليه
الصلاة والسلام الدأب على دعاء من أعلمه الرب تعالى أنه لا يؤمن ، وإن كان النبي صلىاللهعليهوسلم ذاهلا عن مبلغ الثواب الذي يتعرض المكلف له.
والذي يعضد ما
قلناه ، أن التكليف في حق من علم الرب تعالى أنه يكفر لو كان خيرا ، لحسن ممن لم
يبلغ مبلغ التكليف ، وعلم أنه لو بلغه لكفر ، أن يرغب إلى الله تعالى في أن يبقيه
حتى يكفر ،