وقد أكثروا في الجواب ، ونحن نجتزئ مما أورد الأئمة بأن نقول : هلا أماتهم؟ أو هلا قطع عذابهم وسلب عقولهم حتى لا يعصوه؟ إذ ليست تلك الدار دار تكليف ، فيجب فيها التعريض للتكليف. ثم إن لم يبعد المصير إلى أن الأصلح تكليف من علم الرب تعالى أنه يكفر ، فهلا قيل : الأصلح إنقاذ من علم الرب تعالى أنه يعود ، وهذا أقرب ؛ فإن الإنقاذ من العذاب روح ناجز ، والتكليف في حق من يكفر تنجيز مشقة من غير ارتقاب ثواب. وستكون لنا عودة إلى إلزام المعتزلة تأقيت الثواب والعقاب إن شاء الله عزوجل.
ومما نعتضد به أن نقول : إذا حكمتم ، بأن كل ما يفعله الرب تعالى لا يستوجب على شيء من أعماله شكرا وحمدا ، كما لا يستوجب بإيصال الثواب إلى مستحقه حمدا في الدار الآخرة. إذ العقل على قياسهم يقضي بأن من يؤدي واجبا لا يستحق عليه شكرا ، كالذي يردّ وديعة أو دينا لازما.
فإن قالوا : الثواب عوض ، وليس على العوض عوض ، وليس كذلك الابتداء بالنعمة. قلنا : إذا استويا في الوجوب والحتم ، لم يؤثر افتراقهما فيما ذكرتموه ، ثم شكر العبد عوض من النعم ، وهو مقابل للثواب ، فبطل التعويل على ما ذكروه من كل وجه.
ومما كثر فيه خبط البغداديين ، أن قيل لهم : قد أوجبتم على الله تعالى فعل الأصلح في الدنيا ، ومقدورات الباري تعالى لا تتناهى في اللذات ، فبأيّ قدر تضبطونه في الأصلح ، ولا حصر للذات ولا نهاية للمقدورات ، وكل مبلغ من الإحسان فعليه مزيد من الإمكان؟
فإن قالوا : يتقدر الأصلح في حق العبد بما علم الرب تعالى أن المزيد عليه يطغيه ، قلنا : اللذات منافع ناجزة ، ولا معوّل على العلم بأن العبد سيطغى ، فإن من علم الرب تعالى أنه إذا أقدره خيره ، فإنه يؤثر الفسوق والعصيان ، فتكليفه حتم على مذاهبكم ، لكونه تعريضا لمنفعته ، مع العلم بأن المكلف يعطب ويشفي على الردى ، فهلا طردتم ذلك في اللذات من غير تمسك بما يعلم في المآل! ولا جواب عن شيء من ذلك.
وفيما صار إليه هؤلاء خرق إجماع الأمة ومخالفة الأئمة ؛ فإنهم إذا أوجبوا فعل الاستصلاح فلا يبقى للإفضال مجال ، ويخرج الرب تعالى عن كونه متفضلا تعالى الله عن قول المبطلين. وقد علمنا على الضرورة أنباء فحوى خطاب الشرع عن كون الرب متفضلا ، على من يشاء ، كافا نعمه عمن يشاء. وليس لله عند المعتزلة خيرة في أفعاله وإفضاله ، وهذا قدح منهم في الإلهية ، ومراغمة الكتاب العزيز. قال الله تعالى ، في استيثاره واختياره وقهر عباده واقتداره : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [سورة القصص : ٦٨]. ونبذة مما ذكرناه تنقض دعائم المعتزلة وتفض شكائمهم.
فأما البصريون ، فإن ناجزناهم على الأصل الأول ، ومنعناهم تحسين العقل وتقبيحه ، وأوضحنا أن لا واجب على الله تعالى ، ففي ذلك صدهم عن مرامهم ، وإن نحن أضربنا عن ذلك ،