بضد ما ذكرتموه ، فإن مكابدة المشقة تجر إلى من يقاسيها ثوابا جزيلا ، فيحصل الأصلح عاجلا ، والثواب على المشقات آجلا. والرب تعالى لا يتقرر فيه الاتصاف بنصب ، ولا يحسن التكليف مع اشتماله على المشقات عندهم إلا لما ذكرناه. فقد لزمهم الجمع بين الشاهد والغائب لزوما لا محيص عنه.
ومما نعتصم به ، وهو يداني ما ذكرناه ، أن نقول : النوافل والقربات المتطوع بها في فعلها صلاح للعباد ، والذي يحقق ذلك دعاء الرب تعالى إليها وحثه عليها ، ولا يندب الرب تعالى إلا إلى الصلاح عند هؤلاء. فإذا وضح كون فعلها إصلاحا ، فليجب على العباد ما يصلحهم ؛ وإذا لم يكن الأمر كذلك ، وانقسم فعل العبد إلى ما يجب عليه ، وإلى ما يندب إليه على الاستحباب من غير إيجاب ، فلتنقسم أفعال الله إلى ما يجب عليه وإلى ما يعد تفضلا. فإن راموا فصلا بين الشاهد والغائب بما ذكرناه ، أجبنا بما قدمناه.
وإن قالوا : إنما قسم الرب تعالى الأحكام إلى الإيجاب والاستحباب ، لأنه علم ذلك صلاحا ، ووقع في معلومه أنه لو قدر القربات بأسرها واجبات لكفر العباد ، ونفروا عن أعباء التكليف ، وجنحوا إلى الدعوة والتخفيف ، فقدر الله تعالى ما هو الأصلح ؛ قلنا : هذا تمويه ، يدحضه أدنى تنبيه ؛ إذ فعل النوافل صلاح مدعوّ إليه ، ولا سبيل لهم إلى إنكار ذلك.
ولا ينفعهم بعد تسليمهم هذا ، ما استروحوا إليه من اعتبار الوقوع في المعلوم ، فإنهم لا يعتبرون في وجوب الأصلح عندهم حكم العلم. ولذلك قالوا : من علم الله تعالى أنه لو كلف لطغى وبغى ونفر وأشر واستكبر ، ولو اخترمه قبل كمال عقله لفاز ونجا ، فيجب على الله تعالى تعريضه للدرجة السنية مع علمه بأنه يعطب دون دركها. فهلا قالوا : لما كان فعل العقل صلاحا وجب إيجابه ، من غير اكتراث بما يقع في المعلوم! ولا مخرج من ذلك. ولهم على كل طريق مراوغات لا يخفى فسادها على من أحاط علما بمضمون هذا المعتقد ، وإنما ننص على كل طريقة على أغمض ما يموهون به.
ومما يعظم موقعه على هؤلاء ، أن نقول : قضاؤكم بوجوب الأصلح على الله ، ورّطكم في جحد الضرورات. وذلك أن الكتاب إذا بلغ أجله ، وطوق كل امرئ عمله ، وصار الكفار إلى الخلود في النار ، وعلى الرب تعالى أن يصلح عباده ، فإن الصلاح لأصحاب النار في خلودهم وتقطع جلودهم ، ومعاطاة الزقوم بدلا من السلسبيل والرحيق المختوم.
فإن قالوا : ذلك أصلح لهم من الكون في الجنان ، سقطت مكالمتهم وتبين عنادهم. وإن قالوا : إنما يخلدهم الله في العذاب الأليم علما منه بأنه لو أنقذهم لعادوا لما نهوا عنه ، واستوجبوا مزيد عقاب على ما هم ملابسون له ، فتقريرهم على ما هم فيه أصلح من تعريضهم لما يربى عليه من العذاب. وهذا ما لا محصول له.