القاضي ما عزم عليه.
فرأيت أبا عمر قد نظر إليه ، ثمّ قال : من أين لك هذا؟!
قال له : إن كنت قلت لك ما عرفته ، فمسألتي من أين لي فضول ، وإن كنت لم تعرفه ، فقد ظَفِرتَ بي.
فقبض أبو عمر على يديه وقال : لا ، بل والله أُوخّرك ليومي ولغدي.
فلمّا خرج أبو عمر ، قال أبو القاسم : ما رأيت محجوجاً قطّ يلقي البرهان بنَفاق مثل هذا ، لقد كاشفته بما لم أُكاشف به أمثاله أبداً.
ولم يزل أبو القاسم على مثل هذه الحال مدَّةً وافر الحُرْمة إلى أن ولي الوزارة حامد بن العبّاس ، فجرت له معه خُطُوب يَطول شرحها.
قلت : ثمّ ذكر ترجمته في ستّ ورقات ، وكيف قبض عليه وسجن خمسة أعوام ، وكيف أُطلق لمّا خلعوا المقتدر من الحبس ، فلمّا أُعيد إلى الخلافة شاوروه فيه ، فقال : دعوه ، فبخطيّـته جرى علينا ما جرى.
وبقيت حرمته على ما كانت إلى أن توفّي في هذه السنة [٣٢٦] ، وقد كاد أمره أن يظهر ويستفحل ولكن وقى الله شـرّه!
وممّا رموه به أنّه يكاتب القرامطة ليقدموا ويحاصروا بغداد ، وأنّ الأموال تجبى إليه ، وقد تلطّف في الذبّ عن نفسه بعبارات تدلّ على رزانته ووفور عقله ودهائه وعلمه.
وكان يفتي الشيعة ويفيدهم ، وله رتبة عظيمة بينهم (١).
قال الذهبي في السير : قال ابن أبي طيّ في تاريخه : نصّ عليه بالنيابة أبو جعفر محمّـد بن عثمان العمري ، وجعله من أوّل من يدخل حين جعل
____________
(١) تاريخ الإسلام السنوات ٣٢١ ـ ٣٣٠ / ١٩٠ ـ ١٩١.