إن حركة الصراع والتجاذب بين الناس ، تكفل للواقع التوازن الدائم بين قواه وتحفظ للحياة استقرارها وامتدادها وحيويتها ، حيث لا تعود السيطرة على الناس وقهرهم مقتصرة على قوة واحدة دون غيرها ، وبذلك يقي ميزان القوى الذي يرتفع في موقع ، وينخفض في آخر من وقوع ذلك ، أو يمنعه بأسلوب مباشر ، إذ هو يشكّل عاملا نفسيا يمنع البعض من الاعتداء على الآخرين تحت عنوان الخوف ، أو يدفع البعض لتشكيل قوتهم لمواجهة القوى الأخرى. من هنا كانت إرادة الله سبحانه تقتضي عدم حصر القوّة في قطب واحد في الحياة ، بل وزعها سبحانه على الناس جميعا ، ليدفع بعضهم عن بعضهم الآخر ، في ما يهيّئه من وسائل واقعية تخدم ذلك. ولذلك كان تشريع القتال منسجما مع هذه السنّة التي فطر الله الطبيعة الإنسانية عليها ، فقد أودع في الإنسان الكثير من الحوافز الغرائزية التي تتحفز لمواجهة أي خطر من الآخرين يهدد الذات ، بتعطيل أو إرباك أي مرفق من مرافق حياتها ، أو بالتأثير على أيّة مصلحة من مصالحها ، لتستمر الحياة الاجتماعية للناس في نظام دفاعي ذاتيّ متوازن ..
بالتالي ، فإن هذا الإذن الإلهيّ في القتال ، انطلق من طبيعة الفطرة الإنسانية التي تستدعيه ، وهي طبيعة قد تنحرف عن الاتجاه السليم ، ولكن الله أراد أن يؤكد ضرورة القتال على أساس القيم الإنسانية الروحية التي تحركه في الاتجاه الصحيح ، الذي يحمي الإنسان ، ويمنعه من البغي والعدوان.
وهكذا ، نرى في قوله تعالى : (دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) إشارة إلى سنّة الاندفاع الفطري لمواجهة الأخطار التي تهدد مصالح الإنسان الخاصة والعامة ، وقد لا تكون مختصة بالقتال فقط ـ كما يرى البعض ـ بل بكل الوسائل الفكرية والعملية التي يستخدمها الناس في ساحات الصراع ، وقد لا تكون هذه السنّة مقتصرة على الإنسان ، بل تشمل بقية الموجودات الحية ، من حيوانات وغيرها ، إذ إن الله أودع فيها حافزا فطريا للدفاع عن نفسها بأكثر من