وقد نستطيع تأكيد هذا الوجه بالتعمّق في مدلول كلمة (مِنْ) الظاهرة في التبعيض ، مما يجعل المطلوب غضّ بعض البصر لا جميعه ، وذلك لأن مقابلة الجمع بالجمع في قوله : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) تقتضي التوزيع على الأفراد ، بحيث يكون المعنى : ليغض كل واحد من بصره ، لا بصره كلّه. وقد ذكر بعضهم ، أن مفاد التبعيض يتصل بموضوع النظر ، لا بطبيعته ، أي : غضّ النظر عما يحرم والاقتصار على ما يحلّ ، ولكنه خلاف الظاهر ، لأن المتبادر من كلمة البصر العين ، وبذلك يكون التبعيض متصلا بها ، لا بما تتوجه إليه أو تنظر إليه ، وجوّز الأخفش ـ في ما نقله صاحب الكشاف ـ أن تكون مزيدة ، وأباه سيبويه (١). ولعله هو الصحيح ، لأن الزيادة لا دليل عليها ..
وذكر صاحب تفسير الميزان ، أن كلمة (من) لابتداء الغاية لا مزيدة ، ولا للجنس ، ولا للتبعيض ، كما قال بكل قائل ، والمعنى : يأتوا بالغض آخذا من أبصارهم (٢). وهو خلاف الظاهر ، لأن الآية مسوقة للحديث عن طبيعة النظر لا عن الابتداء والغاية.
وعلى ضوء ذلك ، فإن الآية ظاهرة في ترك تعمّد النظر إلى ما يواجهه الإنسان من الأشياء المحرّمة عليه ، مما يجعله لا يواجه الأشياء البارزة أمامه منها ومما يلتقي بها بطريق الصدفة ، بالتحديقة المملوءة ، بل بكسر النظر عنها ، والانصراف عن التعمق في تفاصيلها.
* * *
__________________
(١) تفسير الكشاف ، ج : ٣ ، ص : ٦٠.
(٢) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ١١١.